كتاب " الحرب النفسية - قراءات في إستراتيجيات حزب الله " ، تأليف د. يوسف نصر الله ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الحرب النفسية - قراءات في إستراتيجيات حزب الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الحرب النفسية - قراءات في إستراتيجيات حزب الله
ولذلك نرى إلى الدعاية اليوم تعتمد على أسس وقواعد وبرمجيات ونظريات وأفكار علمية ومنهجية، وتتكئ على جملة من العلوم والمعارف ذات الصلة؛ نحو: علم النفس، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والجغرافيا، والعلاقات الدولية والدبلوماسية. كما تستخدم تقنيات ووسائط علمية حديثة تساعدها على التكيف مع طبيعة الأهداف التي تنشدها وتسعى إلى تحقيقها. والحال هذه، كفلت لنفسها الحياة والصيرورة والديمومة والبقاء والاستمرار، على نحو أصبحت فيه تمارس فعاليتها وتأثيرها وسطوتها وحضورها في زمن السلم، كما في زمن الحرب دونما حدود، بعد أن كيفت أدواتها وطرائقها وأساليبها لتتلاءم مع كل مقام. هذا فضلاً عن أنّها أصبحت عملاً واعياً وهادفاً، منظماً ومخططاً ومبرمجاً، قد يوجّه إلى داخل الدولة لاستثارة الجماهير، ولإحداث تأثير أو تغيير أو تعديل في خياراتها، وقد يوجّه إلى الخارج لإحداث التأثير المطلوب في الرأي والمزاج العام العالميين.
إلا أنّ الدعاية بلحاظ غاياتها المرجوة وأهدافها المنشودة هي في السلم غيرها في الحرب. ففي السلم تستحضر الدعاية وتفعّل لغرض الإنتصار لقضية ما، أو لعقيدة معينة، أو لفكرة مفتاحية يُراد لها أن تتسيّد وتعمّ، وذلك بإعلائها ومقاربتها والإتيان عليها؛ تسويغاً وتعليلاً وتبريراً وترويجاً، بما يتأدّى إلى تخلق بيئة داخلية حصينة قوامها المنعة والاستعصاء. في قبالة إعمال معاول الهدم في عزائم الأعداء والخصوم، وتثبيط إرادات القوة لديهم، واستلاب عقلهم، وكيّ وعيهم، وكبح جماح اندفاعاتهم، وإفشال مخططاتهم ومؤامراتهم، بما يحول دون نجاحهم في عرقلة الإنجازات والفتوح وبرامج التثقيف والتوعية والتنمية التي يعكف عليها رجل الدعاية، أو تتنكبها الجهة العاملة على ابتداعها ـ أي الدعاية ـ ونشرها وتسويقها.
أما في حالة الحرب؛ فللدعاية شأن آخر، فهي تستهدف إدامة معنويات المتلقي الداخلي، والنفخ في روحه وهمته وإرادته، وتهيئته نفسياً لقبول فكرة الحرب، وما قد يترتب عليها من أكلاف وتضحيات، أو ما قد ينجم عنها من ويلات وكوارث إنسانية.
كما تستهدف في هذا السياق أيضاً، النفخ في روح ومعنويات المقاتلين خلال احتدام القتال واستعار المعركة، لاسيما في أشدّ اللحظات حرجاً، كما في لحظات الإخفاق والعجز عن صناعة الانتصارات وتحقيق النجاحات والإنجازات في الميدان، حيث تكون الأعصاب مشدودة بسبب من غموض الموقف، وعنف المفاجآت، وضبابية الأفق المفتوح على التطوّر والاحتمال. ما يرتب على الدعاية أن تفعّل اهتماماتها وقدراتها، وأن توجّه جهودها للتأثير، لا على العقل، بل على الأعصاب، وعلى المشاعر والعواطف والجوارح، وعلى النفس التي تكون في حالة إرباك وتوتر واضطراب وبلبلة وتشوّش، حيث تعكف– أي الدعاية- على بثّ الشعور بالسكينة والارتياح، وعلى تعزيز الشعور التدريجي بالاطمئنان والاستقرار، بنحو يُعيد الاتزان والهدوء إلى روح المقاتل المضطربة، كما إلى وعيه وإرادته، وهو لا شكّ أمر بالغ الأهمية والخطورة والتأثير في اللحظات العصيبة والحرجة والمصيرية. وفي قبالة ذلك، تستهدف الدعاية الإضرار بعزيمة العدو، والعبث بعقله ووعيه وروحه، وإضعاف معنوياته، وإيهامه بعقم محاولاته، وتيه خياراته، وقصور القدرة لديه عن استجلاب النصر، فضلاً عن محاولة التأثير على الدول والجماعات المحايدة لاجتذابها، أو بالأقلّ للحوؤل دون انزلاقها إلى الخيار الآخر.
وتتوسّل الدعاية- في معرض عملها واشتغالها وتوضّعها- بث ونشر معلومات وأخبار مختلفة: قد تتخلق على غير نحو، وقد تتلبّس غير لبوس وزيّ(46)؛ قد تكون حقائق تشفّ عن وقائع وأحداث، وعن معطيات وشواهد حسية ملموسة، كما عن حجج منطقية لا يعوزها برهان أو دليل. وقد تكون أنصاف حقائق، كأن تتأتى من حالة ولادية مبتسرة، أو من تهجين وتلفيق وتوليف بين ما هو واقعي ومنطقي، وما هو متخيّل ومختلق. وقد تكون- ثالثاً- محض أكاذيب وتخرّصات وأباطيل وسرابات وتهويمات وافتراءات وأوهام...، يصار إلى تركيبها وفبركتها وتصنيعها وهندستها وإخراجها، كما حياكتها واستيلادها من نسيج مخيلات حاذقة. وقد تدّعي الدعاية من الإنجازات والنجاحات والفتوح، وتنسب لنفسها ما ليس من عالم الحقيقة، وما ليس له وجود أو ترجمة أو مصداق في حيّزات الواقع وتمثلاته. وقد تحدث كثيراً من الصخب والضجيج والإثارة حول موقف معين، على نحو يفقد هذا الأخير بعض ألقه وصدقيته ومنعته، ويجعله بالتالي قابلاً للشكّ، ومداراً للاسترابة. وقد تذهب بعيداً في جنوحاتها ومغالاتها وتطرّفاتها وطروحاتها، بحيث يكون بمقدورها أن تجعل المتلقي كائناً يعيش وسط احتفالية من السرابات والتهويمات ومن المظاهر الخادعة والبرّاقة، وهذا لا شكّ منتهى ما تطمح وتصبو إليه الدعاية في حراكها وتوقها. إلا أنّ الحصيلة الأكيدة التي لا يخامرها شكّ ولا يداخلها لبس أو تهافت؛ أنّ الدعاية الفاعلة المؤثرة التي تؤتي أكلها كما ينبغي لها، هي تلك المتكئة على الحقائق الملموسة، وتلك الآخذة بالوقائع والحيثيات، وتلك التي تدير ماكينتها وعجلتها لتقدّم ـ بموضوعية وجلاء ـ الصورة الحقيقية.
أركان الدعاية السياسية
تتوفر الدعاية السياسية، بوصفها عملية اتصالية هادفة، على اجتماع جملة من الأركان والعناصر والمكوّنات المؤسّسة، التي تشيّد بتداخلها وتآزرها معمار الدعاية، وترسّم مشهديتها العامة:
أ ـ المرسِل: هو الدعائي، أو هو رجل الدعاية ومطلقها الذي يقوم بعمليات البثّ والاتصال والإرسال. ما يجعله الركن المؤسّس الذي غالبا ما نستطيع تمثله في جماعة سياسية تكون حاملة لإيديولوجية معينة، ولمنظومة اعتقادية وقيمية وفكرية معينة، كما تكون مالكة لتصوّر إجمالي ومتكامل للكون والمجتمع والحياة والوجود.
ب ـ الرسالة: هي عبارة عن سلسلة متوالية من الشفرات والرموز والعلامات والمعاني والإشارات والدلالات والحمولات... التي تنطوي عليها الدعاية، وتتقصّد بثها وإرسالها عبر قناة إلى جمهور المتلقين. كأن تمثل وجهة نظر ما، أو تعبّر عن مضمون فكري نفسي موجّه.
ج- المتلقي: هو مستقبل الرسالة (فرد ، أفراد، جمهور، مجتمع...)، أي هو المرسَل إليه المعني باستهدافاتها بنحو مباشر أو غير مباشر، والمتفاعل، والمتماهي فيها وبها ومعها؛ تمارس عليه سطوتها وهيمنتها وتأثيرها، وترخي فوقه بأحمال مقاصدها وادعاءاتها ومزاعمها واستبطاناتها، وتظلله بمروحة اشعاعاتها ... فتستلب إرادته، وتستحوذ على عقله ووعيه ولاوعيه، لتتوضّع في بؤر التوتر الموجّهة لتفكيره، والبانية لتصوّراته الحاكمة.
د- الوسائط الاتصالية: هي وسائل وأدوات البثّ أو الإرسال الصالحة والفعّالة التي تُمّرر الرسائل عبر أقنيتها ومساربها إلى المتلقين على نحو يؤدّي الغاية المرجوّة والغرض المقصود. وتشمل مجمل الوسائط القادرة على نقل الرموز والشفرات اللغوية منها وغير اللغوية؛ نحو: الملصقات، اللافتات، البيانات، الدعوات، الندوات، المقابلات، المؤتمرات، السفارات، الصحافة، السينما، التلفزيون، المسرح، الإذاعة، المرئيات، الانترنت، المعارض...
هـ - الهدف: هو الأثر الذي ينبغي له أن يترتب على عمل الدعاية وفعلها في المتلقين، والذي بالمقدور ملاحظته من خلال معاينة وفحص التأثيرات والتحوّلات والتغييرات المستجدّة على الرأي والمزاج العام، كما على المواقف والاستجابات. ما يعني أنه السلوك المعيّن الذي تتوسّله الدعاية وتنشده في جماعة محدّدة؛ نحو تغيير آرائها، أو أفكارها، أو عقولها، أو مواقفها، أو تطوير استجاباتها...، وفق ما يتوافق مع تطلعات وأهداف مرسِل الدعاية ومطلقها.