كتاب " مأزق الديانات وأزمة العلمانية - حوارات في الدين والدنيا " ، تأليف حسين نصر الله ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مأزق الديانات وأزمة العلمانية - حوارات في الدين والدنيا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مأزق الديانات وأزمة العلمانية - حوارات في الدين والدنيا
كريم مروه
الحركات الأصولية تغتالالبديل بدل أن تغتال الخصم
لم تكد التجربة الشيوعية تكشف عن أزمتها، حتى تسارعت الاجتماعات والندوات ولجان الأبحاث لتقدم قراءات جديدة ومثيرة، تشرح أن هذه العقلانية العلمانية التي وصمت هذا القرن قادت إلى أفظع المذابح.. وأنها حين اجتهدت لتنسيق المخالطات الاجتماعية، قد وضعت العمال في مواجهة أرباب العمل وخضبت ساحات المعارك بالدم، وأخفت الأزواج وفرقت العائلات. وذهب الأمر بالبعض إلى اعتبار أن الفكر العلماني ينتمي إلى عرقية جديدة تزعج وتهدد كل من لا ينتمي إلى عالمها، ووصفها البعض الآخر بأنها تشكل العصر الذهبي للعدوانية. لكن السؤال: هل تقلصت الحركات العنيفة في العالم اليوم، وخصوصاً وسط المجتمعات الغربية، وهل ساهمت هذه المرحلة من «الديمقرطية الغازية» في التخفيف من القلق الذي أحدثه إدراكنا الحسي لعالم محكوم بعدم الضبط. أم أن هذه «الديمقراطية» نفسها هيأت للأحقاد التي لا تغتفر تحت غطاء المهمة المحضرة للعولمة الأميركية، التي تنشر ثقافتها الاستحواذية التي تجرف في طريقها الخصوصيات والهويات الوطنية وتجعل من الدول مجرد مرافئ مهمتها تسهيل عبور للرأسمالية إلى أصغر نقطة في العالم وأبعدها. لنرى في المقابل أن بعض الشيوعيين قد أشاحوا أنظارهم عن أمجاد «الثورة الذهبية» التي هزت المجتمع الانساني، من دون الإشارة حتى إلى أن هذه الثورة التي انتابها الجنون قد نشأت في أبهى تربة إنسانية، ولم يجتهد إلا قلة محاصرة لتسجيل شهادة ولو شخصية عن صورتها الحقيقية... شهادة عن المثالية التي قادت الطلاب والعمال والمسحوقين والمنبوذين في العالم ليصبحوا ماركسيين حتى عن بعد. بل ما حدث هو أن المطابع غصت بشهادات عن الذين سجنوا وعذبوا وأرغموا على الإدلاء بشهادات مزورة، عن بعضهم ضد بعض ومن ثم قتلوا في معسكرات ستالين. كأنه لم يبق من الشيوعية إلا الافتراءات السياسية التي كانت تغلف التهم الجنائية.. بل كأن هذه الثورة لم تحقق سوى دولة بوليسية مهمتها إنتاج الضحايا.. هذا الواقع دفع الكثير من «رفاق الأمس » إلى الاعتذار والندم عن سلوكهم الخط السياسي الجذري في فترة شبابهم وتجردوا من أسلحة الماركسية المبشرة. لكن في بلداننا العربية رأينا أن الكثير من الشيوعيين قد صفقوا للرياح الليبرالية التي بدأت تهب علينا! وهناك من اعتبر أن «دستور الحرية» الجديد هو الكتاب المقدس الذي سيعيد الانفراج إلى الحياة السياسية بعد عقود من الجمود الايديولوجي. ماذا حدث؟ هذا «التحرر» من كوابح الماضي ترافق مع عودة الأصولية المشحونة بالعداء لكل ما يمثل الانفتاح والتنوع، وسرعان ما تحول الغزل بين الأصوليات العلمانية والدينية عن الطاولة المستديرة إلى خلف المتاريس. والذي اعتقدنا أنه هوامش بسيطة للتنفس في وسط المجتمع المدني، تحول فجأة إلى «آيات» للتحريم والتكفير والنبذ.. ووسط هذه المستجدات «القدرية» صار بالإمكان استخدام علمانيي الأمس كضمانة يمكن الاعتماد عليها لتضليل الرأي العام، وتوجه الكبش الايديولوجي إلى أسوأ الخطوط المعادية للإصلاح والانفتاح والتغيير.. هذه المكائد الاجتماعية اشترك فيها دينيون وعلمانيون.. والذي اعتقدنا أنه ولادة قواسم مشتركة جديدة بين التيارات والإيديولوجيات والحركات كان في الحقيقة إعادة دفن محكم لقيم الحوار. لنرى أن هناك طريقة وحيدة للعيش هي الاقصاء.. والذين نجوا في زمن «القمع» سقطوا ضحايا وهم «الحرية.. الماضي أصبح أمامنا. والمبارزة بين العلمانيين والدينيين يصعب التخلص منها صعوبة التخلص من التدخين أو فرقعة الأصابع. وحين يتحاورون يشي كلامهم دائماً بوجود ذخائر سرية متروكة للمفاجآت. وكل واحد منهم يريد المبارزة وفق شروطه، فهم يملكون من الشدة والخبرة ما يكفيهم لاختيار اللحظة المناسبة لقطع المشهد. ورغم ذلك تبدو المبارزة أبدية. لا يوجد أي حكم يمكنه أن يطلق الصفير معلناً نهايتها. مما يحملنا على الاعتقاد أنه سيكون هناك لدى أنصار هذه الجهة أو تلك فرق مساندة مستعدة للقيام مقام الذين خارت قواهم وأرهقهم الاصغاء إلى حجج الخصم. إن أحد أسباب العنف هو عدم القدرة على الافهام والتفاهم وتعطيل لغة المنطق وإطلاق التعميمات والاخلال بحقائق الأشياء، واستخدامنا تعابير مشحونة وملتهبة. وهنا أتحدث عن خطباء دهماويين متمرسين في الألفاظ. ويستعملون الديماغوجية بدل المنطق عن دراية بهدف التهييج والعنف والإثارة. والقضية باستمرار هي قضية السلطة وحب السيطرة، وهذا هو الحافز الذي يحرك متعهدي العنف وسماسرة الإرهاب في كل مكان وفي مختلف المواقع. لذلك ليس غريباً ظهور فئات من الأصوليين الداعين إلى العنف والمنفذين له.. خصوصاً بعد سقوط الشيوعية، ومسارعتهم لملء فراغ السلطة، فعندما نعتقد أننا احتكرنا الحقيقة، فإننا حين ذاك نصدق بلوغنا اليقين المطلق الإحكام والذي لا بديل له. تماماً كما ظنت الشيوعية التي ما إن اعترتها الشكوك، حتى انهارت. لنرى أن هذا الانهيار ترافق مع عودة الدكتاتورية الدينية. لذلك فإننا نحتاج إلى المنطق الذي يعلمنا الشك ويغذي حوافزنا على التواضع. والمأساة التي نواجهها هي أن هذا الفريق أو ذاك هو دائماً في غاية التأكد ولديه حبة اسبرين لشفاء كل علة. وهكذا جعلنا حياتنا كلها تدور في إطار مشروع تسويق كبير، نطلب من خلاله الحلول الجاهزة لمشكلاتنا الصغيرة، حتى خيل إلينا في غمرة النشوة أننا وجدنا الحلول للمسائل الكبيرة أيضاً، من دون أن ننتبه إلى أننا نتلقى العلوم كمستهلكين وليس كمفكرين. ومن دون أن نشكك ولو للحظة في حتمية وجود الحل أو احتمالات البدائل، أو تعدد الحلول لقد أعدمنا الاحتمالية المفتوحة ولم ننتبه إلى أبسط البديهيات التي تقول إن مشاعر الحزن والحب والخوف والإيمان عظيمة جداً وخصوصية جداً، وعندما تفرض علينا فرضاً يصبح ذلك اغتصاباً للقيم الانسانية وتدنيساً.
هل يدعو هذا الكلام إلى تلمس الفارق بين الشعائري المحترم والاستعراضي الرخيص؟
لن تخمد هذه الحوارات الصراع القديم بين الروحانيين والماديين، لكنها ربما تمنحه انعطافة جديدة، بعيداً عن الكليشهات الجاهزة والمعممة التي تجعل الدم يشخب من جروح منكوءة عمداً بدافع من قوة الشعور بالذنب، ذلك لأن هذا السمو بالإحساس بالذنب لن يمنح المعترف يقيناً بالمغفرة التي تهب الإرادة والقوة الكافيتين للردع عن معاودة اقتراف الخطايا. ولسنا في وارد إعادة بعث فكرة «المخلص» الذي يحررنا من آثام الحياة. كل ما في الأمر هو أنه علينا إدراك أن غالبية المجتمعات توصلت إلى اختيار العقلانية في التعامل خلال رحلة تطورها الضاربة في عمق التاريخ والزمن، وأن هذه المجتمعات قد انحازت طوع إرادتها للقانون دستوراً وللنظام نبراساً بدلاً عن اعتباطية الجهات العليا واستبداديتها وتحكيم الهوى، وبدلاً عن لعبة شطرنج الكلمات. فماذا يقول كريم مروة؟