كتاب " بونا هكتور " ، تأليف جورج فرشخ ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب بونا هكتور
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بونا هكتور
قبل البونا هكتور، لم تكن إهدن-زغرتا صحراء مجدبة تقطنها عشائر مستوحشة، تتقاتل على الكلأ. كانت مدينة متوسطة، تعرضت لمصيبة كبيرة، ولمقتلة تجاوز عدد شهدائها 20 شخصًا، بينهم 15 شابًا زغرتاويًا، من خيرة شبابها وأطيبهم خلقًا ورجولة. معظم أبناء المدينة اعتبروا أن الدولة شجعت على المجزرة، وتعمّدت عدم تفاديها، فسيطرت على المدينة روح الثأر والحداد، وأفقدت أهلها كثيرًا من توازنهم وحصافتهم. ومهما كانت الاتهامات الموجهة للرئيس شمعون ، فالمجزرة الرهيبة بساحتها، وبمرتكبيها، وبالوحشية التي "تحلّوا" بها، لم يقترفها قديسون وأولياء، ولا العذارى الموعودات، ولا غرباء.
مشكلة إهدن-زغرتا مع ذاتها أنها كانت تحاول أن تنتقل من قرية كبيرة بمجتمعها الزراعي، إلى مدينة متوسطة بمشاكلها المتنوعة والمتكاثرة. ومشكلتها الثانية كانت مع الدولة، ومع رئيسها بالذات. فالرئيس كميل شمعون كان يعتبر نائب زغرتا حميد فرنجية ألدّ خصومه السياسيين، وأكثرهم جدّية في منافسته على الرئاسة. وكان مستعدًا أن يلجأ لكل الوسائل من أجل عرقلة مسيرة خصمه. ولم يكن ذلك خافيًا على أحد، ولا على الكاهن الدكتور العائد من روما ليكرس نفسه لخدمة هذه المدينة المعقدة بذاتها. كما كان يعرف أن فيها غرسًا مباركًا، من كهنة الرعايا، لا بل يمكن القول إن البونا هكتور هو من نتاج تلك الغرسات. الكهنة الذين سبقوه كانوا بمعظمهم متزوجين وعندهم عيال. ويجب الاعتراف بأنهم قاموا بواجباتهم كاملة. وأحسنوا فعلاً عندما وصل البونا هكتور، فلم يشعر أحدهم بالحسد، ولا بضيق العين. وبمحبة واحترام، أفسحوا له في المجال، ووضعوا أنفسهم بتصرفه. وبحكمته، وإيمانه، أقرّ بفضلهم، وقدّر دورهم، ووزّع عليهم الواجبات التي كانوا يجيدون القيام بها، والتي كانت تجمع حولهم أبناء الرعية، من القداديس إلى الجنازات وسائر الزياحات.
كانت عودة البونا هكتور إلى زغرتا، وانضمام الخوري اميل إليه إشارة لعودة الشباب الإهدن-زغرتاوي إلى مقدم الساحة في مدينتهم. وانشغل البونا هكتور باستنهاض هممهم. وخصّ الشبان والبنات بعناية مميزة. لم يؤلف لجنة، ولم يقم بنشاط دون أن تضم اللجنة أو الهيئة المكلفة به عددًا من البنات والسيدات. وعوّل عليهن ليساعدنه على فرض الاعتدال في التعبير عن الحزن وعلى كسر دورة الحداد، والانتصار على الرغبة بالثأر.
وبسرعة لبّى الشبان والصبايا النداء، خصوصًا وأنهم لاحظوا أن الخوري اميل سعادة ، تخلّى عن بيروت للالتحاق به في إهدن-زغرتا.
وشيئًا فشيئًا، وبكثير من الصبر، بدأ التفاعل والتبادل والنقاش يفعل فعله في العقول الشابة والقلوب المتحفزة للعمل. وعاد سائل الحياة يدبّ في أجسادهم ويوقظ ضمائرهم ووجدانهم، وتراجع قليلا الإحباط والضياع.
كان يسود في أوساط الشباب نوع من الشعور بعدم الفائدة، بأنهم عالة، بأنهم ليسوا أحسن ولا أثمن من الذين راحوا، والذين ماتوا أبطالاً. كان الأهل المساكين مجروحين حتى الموت، فرفعوا من شأن القتلى، وغالوا بأهميتهم. وما كانوا يشعرون أنه يوجد شيء يمكن أن يعوّض عن خسارتهم حتى ولا الأبناء الأحياء. ولم يكن بوسع هؤلاء أن يعارضوهم أو يناقشوهم، أو يكذبوهم.
وجاء البونا هكتور يعلن اهتمامه بالأحياء، ويقول للمفجوعين بكياسة إنهم أبدى من الأموات. وأخذ الجسد المدفوع دفعًا إلى اليأس، إن لم يكن إلى الموت، يقاوم، ثم ينتفض، ويتحرّك، ويشعر بشوق إلى الحياة، إلى نبذ اليأس. جاء يقول لهم بعنف، بقسوة، بتوبيخ، وبقوة الإيمان الماروني، جاء يذكرهم بإرادة الله الذي يختار من يريد ليرفعه إليه. وبواجب الخضوع لمشيئته، كما تقول الصلاة الربانية: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض". وبأنهم "أبناء الله يدعون" فخضعوا، ورضخوا، وأطاعوا، وفهموا. كُمّت الأفواه. ولم تنطفىء الجمرة الحارقة في الصدور.
ساعد زخم الشباب على تحريك الجبال. آمنوا بهذا الآتي على أجنحة الإيمان، متخليًا عن مجد روما وعن الأبواب الكثيرة المفتوحة أمامه، ليعيش معهم بؤس إهدن-زغرتا، وتعاسة أهاليها، ومستقبلها المصبوغ بلون واحد: أسود حتى النخاع.
الشباب بإمكانياتهم المشتتة، والمهدورة عبثيًا، ما كان بوسعهم أن يشكّلوا رافعة للمجتمع الإهدن-زغرتاوي، لأن الحصانات والضمانات الضرورية لاتقاء مثل تلك الضربات الكارثية القاتولية كانت مفقودة. وحين غافلتهم في مجزرة مزيارة (1957)، ثم قوّضتهم في الثورة (1958)، انهار ما بقي من دفاعاتهم كلها، وكادت تجرف معها كل سلطة دينية أو دنيوية تحاول أن تتصدّى لها، لترميمها أو للإجهاز عليها.
كانت السلطة الدينية المحلية في إهدن-زغرتا أعجز من أن تواجه هذا العبء الثقيل، فاتجهت ناحية السلطة العليا، التي كانت ملهية بألف مسألة وقضية، قبل أن تصل إلى موارنة "الأطراف". كانت مشغولة عنهم بمصير العالم الحر، بحصار برلين الغربية، بالحرب الباردة، بحلف بغداد، بالحرب الساخنة التي تهدد باندلاعها أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، بمغامرة يوري غاغارين الرجل الأول في هذا الكوكب الذي غادر فضاءه وجاذبيته وعاد إليه سالمًا... ومعلنًا، بغباء يتناقض مع ذكائه المفترض وشهاداته العلمية العالية، أنه لم يشاهد الله... هل كان يتوقع أن يراه "مستويًا على الكرسي كاستوائه خلف المقود؟"