في رواية "جدار الأكاذيب"، للكذبة حجم ووزن و قوة تأثير، وللكذبة زمان ومكان وطعم ولون. بعد ما جرى لي، أصبحت أسمعها وأراها وأشمّها وألمسها وأحسّ بقوة ضغطها وسرعة مرورها، بل أصبحت أستقبلها كفكرة من الآخرين عبر التخاطر والحاسة السادسة..
أنت هنا
قراءة كتاب جدار الأكاذيب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
جدار الأكاذيب
أملٌ في رحم الغربة
ـ كأن المدينة تتأمل وجهها ليلاً في مرآة كبيرة تنصب على أطرافها..!
كانت مجرد فكرة عابرة طرحتها على زوجي يوماً، فقال مستغرباً:
ـ تقصدين أن تتزين المدينة في مرآة نفسها..!
ـ وربما تبوح لمرآتها ببعض الأكاذيب، أو تراقب فيها المكائد المتسكعة في أزقتها..
حدث ذلك منذ سنة، وأتذكّر فكرتي الليلة قائلة في نفسي هل تظهر صورتي في مرآة المدينة وأنا معتقلة في هذا القبو المجهول العنوان بين أقبية المدينة؟. ربما تراقب المدينة بعض الأكاذيب في مرآة وجهها، وظلال الخطايا في ناصيتها، لكن هل تسجّل كل ما يدور في أقبيتها الرطبة؟.
إذا ما كانت المدينة تبوح بلسان حالها لزائرها من أول وهلة، تعلن أفكارها وبعض أسرارها على بشرة وجهها، وربما تشهد يدها التي تبطش بها أو رجلها التي تعرج بها يوماً ما على صفحات التاريخ، فهل تتقيأ المدينة كل كذبة تتخمر في أقبيتها التي تحفر خارج أسوار المرايا؟
هي ليلة واحدة اقتربت مني ببطء وتثاقل مثل عجوز تجرّ ساقها المشلولة وتختبئ في قبو الظل لتخفيف هبّات السخونة التي لم تفارقها رغم تعديها سن اليأس.. وعندما أخرجوني إلى الطابق العلوي حسبت أن سلسلة طويلة من الليالي جرجرتني في طرقات من الوحل والنجاسات.. وهذه الرجفة التي عصفت بيدي خلال ليلة واحدة حسبتها داء باركنسون، أو رجفة الكهولة التي تطورت لدي في سن مبكر.
قبل سنة كنت أسهر كل ليلة على ضفّة جفن المدينة، أتأمل قاربي الملقى على شط عينيها منذ طفولتي الأولى..
المدينة البحرية غالباً ما تنام في وقت متأخر، فموج البحر يدغدغ خاصرتها، وصافرات السفن تهمس في أذنيها كل ليلة أسرار أسفارها، وأخبار الحب الآتية عبر البحار تحفّز ذاكرتها المدمنة العشق، فالمدن العاشقة غالبا ما يجافيها النوم.
وقد تصاب المدن البحرية بالتخمة أحيانا، إذ تلقي السفن في جوفها البهارات الهندية، والفواكه الاستوائية، والمكسّرات الأفريقية، واللحوم الاسترالية، فالمتخمون أيضاً لا ينعمون بالنوم. بعض المدن البحرية يطبق عليها البحر وجدر الظلام فيعتصرها الجوع ويحرمها من النوم، وقد تلطم رياح الأخبار السيئة وجهها. المدن البحرية العربية لا تصفعها الرياح التي تحمل أخبار الخوف من تسونامي فقط، أو غرق السفن بسبب عواصف الطبيعة وأعاصيرها، بل تصفعها إضافة إلى ذلك أخبار الحصار الدولي عليها أو على شقيقاتها، أخبار المؤامرات الأوروبية والأمريكية، أخبار عن احتمالات الحرب، أو ربما الهجوم المباغت، تصفع وجهها رياح كاذبة كل ليلة، ورياح الكذب تغزل خيوط الخطيئة فتجعلها عقدة عصية بمرور الزمن.
في النهار تنظر المدينة البحرية إلى وجهها في مرآة البحر، تعالج البثور والدمامل التي تظهر بين حين وحين، وتحاول تسوية التجاعيد حول عينيها بمساحيق مستوردة، ثم وفي كل ليلة تلتهب أنسجتها بمزيد من الأكاذيب والقلق، فكيف تنام المدينة حين يشغلها القلق، وتعصف بها الهموم، ويعشش في أذنيها الخوف، ولهذا تفضل أن تشغل نفسها بالسهر.
وأنا عزة المقدسي، حين يجرّ القبو سلسلة ذاكرتي قسريا إلى الوراء، أسهر مثلما تسهر هذه المدينة البحرية، غير أنني أقلق أكثر مما تقلق. بدأت حركتي القلقة في رحم أمي عندما كانت في غزة المدينة البحرية الفلسطينية، وأكتب الآن بذاكرة قلقة من مدينة بحرية خليجية حيث أعيش، وما زلت أشمّ وأسمع وأرى كثيراً من الأكاذيب المتشابهة، رغم تلونها بألوان أخرى غير لون البحر الأبيض المتوسط.
لن أصف ملامح وجهي وقامتي، رغم أنني جميلة كما يقول زوجي، وربما تكون إطراءته هذه هي الكذبه المتكررة الوحيدة الجميلة والمحببة إلى قلبي، الكذبة التي تجعلني لا أبدو عارية في حضرة الصراحة. لكنني وبكل الخجل أخبركم، وإن بلغت العشرين من عمري، أنني أحس بأن قفاي يشبه قفا الطفل حنظلة، تماماً كما رسمها ناجي العلي، القفا المهاجرة، القفا العائدة، المشردة والكسيرة والمقاومة، المثيرة والهاربة والمبدعة، القفا المشهورة الهوية التي لا تزال تبحث عن هويتها.