ينطلق هذا الكتاب من فكرة بسيطة: سرد قصة الحروب الصليبية كما نَظَر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في «المعسكر الآخر»، أي في الجانب العربي. ويعتمد محتواه بشكل حصريّ تقريباً على شهادات المؤرخين والاخباريين العرب في تلك الحقبة.
أنت هنا
قراءة كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الحروب الصليبية كما رآها العرب
حتى إن الهجرة في رأي كثير من المسلمين فرض واجب في حال الاحتلال. ولسوف يهُولُ الرحالةَ العربي الأندلسي الكبير ابن جبير الذي زار فلسطين بعد حوالي قرن من الزمن على بدء الغزو الفرنجي أن يرى بعض المسلمين ممن «استهواهم حبّ الوطن» (3) وقد قبلوا العيش في البلاد المحتلّة. ولسوف يقول: «وليست له [أي المسلم] عند الله معذرة في حلول بلدة من بلاد الكفر إلا مجتازاً. وهو يجد مندوحة في بلاد المسلمين لمشقّات وأهوال يعانيها في بلادهم [أي الكافرين] (...) ومنها سماع ما يفجع الأفئدة من ذكر من قدّس الله سرّه وأعلى خطره [أي النبي] لا سيما من أراذلهم وأسافلهم، ومنها عدم الطهارة والتصرّف بين الخنازير وجميع المحرّمات (...) فالحذرَ الحذرَ من دخول بلادهم. والله تعالى المسؤول حسن الإقالة والمغفرة من هذه الخطيئة (...) ومن الفجائع التي يعانيها من حل بلادَهم [أي الكافرين] أسرى المسلمين يرسِفون في القيود ويُصرَّفون في الخدمة الشاقّة تصريف العبيد، والأسيرات المسلمات كذلك في أَسْوُقِهِنَّ خلاخيل الحديد فتنفطر لهم الأفئدة ولا يغني الإشفاق عنهم شيئاً» (4).
وإذا كان في أقوال ابن جبير غلوّ من الوجهة العقديّة فإنها تعكس على كل حال تصرّف أولئك الألوف من النازحين من فلسطين وشمالي سوريا وقد تجمّعوا في دمشق في ذلك الشهر (تموز/يوليه) من عام 1099م. إذ إنهم، وإن انفطرت قلوبهم بالطبع لتركهم منازلهم، مصمّمون على عدم العودة إلى ديارهم قبل رحيل المحتلّ إلى غير رجعة، وعلى إيقاظ ضمائر إخوتهم في جميع بلاد المسلمين.
وإن لم يكن كذلك فلماذا جاءوا إلى بغداد بقيادة الهروي؟ أليس على المسلمين أن يقصدوا إلى الخليفة، خليفة النبي، في الساعات العصبية؟ أليس عليهم أن يرفعوا شكواهم وظلامتهم إلى أمير المؤمنين؟
ولسوف تكون خيبة النازحين في بغداد بقدر ما كانت آمالهم. فقد أخذ الخليفة المستظهر بالله يعبّر لهم عن أعمق تعاطفه معهم وأبلغ عطفه عليهم قبل أن يكلّف ستة من أصحاب المناصب الرفيعة في البلاط التحقيق في تلك الأحداث المفجعة. ترى هل ينبغي التأكيد بأن شيئاً لم يُسمع على الإطلاق عن لجنة الحكماء هذه؟
ولم يكن غزو بيت المقدس، وهو بداية حرب قديمة العهد بين ديار الإسلام والغرب، ليثير على الفور أية انتفاضة. وكان لا بد من الانتظار قرابة نصف قرن قبل أن يتحرك الشرق العربي لمواجهة المجتاح والاحتفاء بدعوة قاضي دمشق إلى الجهاد في ديوان الخليفة بوصفها أول عمل مشهود من أعمال المقاومة.
وقليلون هم العرب الذين سبروا على الفور في ابتداء الغزو هول الخطر الوافد من الغرب كما سبره الهروي. بل سرعان ما تكيّف بعض الناس مع الوضع الجديد. ولم يكن همّ السواد الأعظم سوى البقاء على قيد الحياة مستسلمين لقدرهم وإن على مضض. واتخذ بعضهم موقف المراقب شبه الواعي محاولين فهم الأحداث التي كانت غير متوقّعة بقدر ما كانت جديدة. وأكثر هؤلاء إثارة وتشويقاً مؤرخ دمشق ابن القلانسي، وهو شاب مستنير من أسرة وجيهة. ولقد كان رقيباً للأحوال منذ الساعة الأولى، فعمره في سنة 1096م عندما وصل الفرنج إلى الشرق ثلاثة وعشرون عاماً، وقد انصرف بانتظام إلى تقييد الأحداث التي كانت تبلغه، وتاريخه يروي بأمانة ومن غير إفراط في الهوى مسيرة الغزاة كما شوهدت في مدينته.
وكانت بداية الحكاية بالنسبة إليه في تلك الأيام المفعمة بالكرب التي سرت فيها إلى دمشق أول الشائعات...