أنت هنا

قراءة كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحروب الصليبية كما رآها العرب

الحروب الصليبية كما رآها العرب

ينطلق هذا الكتاب من فكرة بسيطة: سرد قصة الحروب الصليبية كما نَظَر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في «المعسكر الآخر»، أي في الجانب العربي. ويعتمد محتواه بشكل حصريّ تقريباً على شهادات المؤرخين والاخباريين العرب في تلك الحقبة.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

وبعث قبل أن يبتعد برسالة وداعية إلى حُماة المدينة لإخطارهم بقراره الأليم بأن يتصرّفوا «وفاقاً لمصالحهم». ومعنى هذا الكلام واضح للحامية التركية والشعب الرومي على السواء: ينبغي تسليم المدينة إلى ألكسي كومنين لا إلى مساعديه الفرنج. وعلى هذا جرت المفاوضات مع القيصر الذي كان قد تمركز على رأس جيشه غربي نيقية. وقد حاول رجال السلطان كسب الوقت آملين ولا ريب في إمكان عودة سيّدهم مصحوباً ببعض المَدَد. ولكن ألكسي على عجلة من أمره: إنه يهدّد بأن الغربيين يستعدّون للهجوم الأخير، وعندها لن يكون في وسعه أن يفعل شيئاً. وإذ تذكّر المفاوضون ما فعله الفرنج في العام الماضي في نواحي نيقية فقد دبّ الذعر إلى أفئدتهم وهم يتصورون مدينتهم منهوبة ورجالها مذبوحين ونساءهم مهتوكة أعراضهن، وقبلوا بلا تردّد أن يسلّموا أمرهم إلى القيصر الذي سيحدّد بنفسه طرق التسليم وشروطه.
وفي الليلة الثامنة عشرة من شهر حزيران/يونية أُدخل إلى المدينة جنود من الجيش البيزنطي معظمهم من الأتراك بواسطة قوارب اجتازت بهدوء بحيرة «اسكانيوس» فاستسلمت الحامية من غير قتال. وما إن انبلج الصباح حتى كانت رايات الإمبراطور الزرقاء والذهبية تخفق فوق الأسوار فعدل الفرنج عن شنّ الهجوم. وهكذا سيكون لقلج أرسلان عزاء عن حظه العاثر: لسوف يُعفى عن أعيان السلطنة وتُستقبل السلطانة الشابة بصحبة وليدها في القسطنطينية استقبال الملوك وسط حنق الفرنج واستنكارهم.
كانت زوجة قلج أرسلان الشابة بنت «تشقا»، وهو مغامر خارق الذكاء وأمير تركي كان قد ذاع صيته عشيّة الغزو الفرنجي. وقد سجنه الروم إذ كان يغزو غَزاةً في آسيا الصغرى فبهر سجّانيه بالسهولة التي أبداها في تعلّم اللغة الرومية، فما كادت تنقضي بضعة شهور حتى كان يتكلّمها بطلاقة وإتقان. ولما كان متوقّد الذهن ماهراً شيّق الحديث فقد أخذ يتردّد بانتظام على البلاط الإمبراطوري الذي ما لبث أن أغدق عليه أحد ألقاب الشرف. ولكنّ ذلك الإنعام العجيب ما كان ليكفيه. فقد كان يصبو إلى أعلى، أعلى بكثير: كان يريد أن يصبح إمبراطور بيزنطة!
وكانت للأمير «تشقا» بهذا الصدد خطة مُحْكَمَةٌ جداً، فقد ذهب للإقامة في ميناء إزمير على بحر إيجة حيث ابتنى بمساعدة سفّان رومي اسطولاً حربياً حقيقياً ضمّ شِراعيّات خفيفة، وسفناً بمجاذيف، ودَرامِد، ومجذافيّات بصفّين من المجاذيف، وأخرى بثلاثة صفوف، فبلغ مجموعها نحو مئة قطعة. واحتلّ في المرحلة الأولى عدداً من الجزر، ولا سيما رودس وكيوس وساموس، وبسط سلطانه على ساحل الإيجيّ بأسره. إذ تمّ له أن يصطنع إمبراطوريةً بَحْرِيةً فقد أعلن نفسه قيصراً منظّماً بلاطه في إزمير على شاكلة البلاط الإمبراطوري، وأطلق أسطوله لمهاجمة القسطنطينية. ولقد بذل ألكسي جهوداً مضنية كي يتمكّن من صد الهجوم وتدمير جزء من السفن التركية.
* * *
ولم يفتّ ذلك في عضد والد الفتاة التي ستكون يوماً زوجة السلطان قلج أرسلان فجدّد بمضاء عزيمة بناء سفنه الحربية، وكان ذلك حوالي عام 1092م، أي في الوقت الذي تمت فيه عودة قلج أرسلان من المنفى. ولقد قال «تشقا» في نفسه إن ابن سليمان الشاب سوف يكون له نِعْمَ الحليف في قتال الروم فقدّم له يد ابنته. ولكن حسابات السلطان الشاب كانت مختلفة جداً عن حسابات حميه، فقد كان غزو القسطنطينية يبدو له أمراً غير معقول، ولم يكن أحد من بطانته يجهد في مقابل ذلك إنه كان يسعى إلى القضاء على الأمراء الأتراك الذين كانوا يحاولون اقتطاع أرض لأنفسهم في آسيا الصغرى، وعلى رأسهم دنشمند و«تشقا» الذي لا حدّ لطموحه. ولم يتردّد السلطان، فقبل وصول الفرنج ببضعة أشهر دعا حماه إلى مأدبة وأسكره وقتله بطعنة من خنجره، وبيده بالذات على ما يبدو. وكان لـ «تشقا» ابن فتولى بعد أبيه، ولكنه لم يكن يملك ذكاءه ولا طموحه. ولقد اكتفى أخو السلطانة بإدارة شؤون الإمارة البحرية حتى ذلك اليوم من صيف 1097م الذي وصل فيه أسطول الروم فجأة إلى مياه إزمير وعلى متنه رسول غير متوقَّع: أخته.
ولقد أبطأت هذه في إدراك أسباب اهتمام الإمبراطور بها، ولكن ما إن أُرسل موكبها إلى إزمير التي قضت فيها صباحاً حتى اتضح لها كل شيء. إنها مكلَّفة أن تشرح لأخيها أن ألكسي استولى على نيقية، وأن قلج أرسلان هُزم، وأن جيشاً قوياً من الروم والفرنج لن يلبث أن يهاجم إزمير يسانده أسطول ضخم، وأن ابن «تشقا» مدعوّ إذا أراد إنقاذ حياته أن يوصل أخته إلى زوجها في مكان ما من الأناضول.
وإذا لم يُرفض العَرضُ فقد زال وجود إمارة إزمير. وهكذا خرج ساحل بحر إيجه برمته، وكل الجزر، والجزء الغربي من آسيا الصغرى بأسره، من يد الأتراك غداة سقوط نيقية. وبدا أن الروم يعاونهم مساعدوهم الفرنج قد قرَّروا الذهاب إلى أبعد من ذلك.
ولكن قلج أرسلان القابع في ملاذه الجبلي لا يلقي السلاح.

الصفحات