ينطلق هذا الكتاب من فكرة بسيطة: سرد قصة الحروب الصليبية كما نَظَر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في «المعسكر الآخر»، أي في الجانب العربي. ويعتمد محتواه بشكل حصريّ تقريباً على شهادات المؤرخين والاخباريين العرب في تلك الحقبة.
أنت هنا
قراءة كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الحروب الصليبية كما رآها العرب
الفصل الثاني : زرّاد ملعون
«حين بلغ ياغي سيان صاحب أنطاكية نبأ اقتراب الفرنج خاف أن يتمرّد نصارى المدينة، وعليه فقد قرّر طردهم» (15).
والمؤرخ العربي ابن الأثير هو الذي سيروي الحادثة، بعد أكثر من نصف قرن على بدء الغزو الفرنجي، بالاستناد إلى الشهادات التي خلّفها المعاصرون:
«في اليوم الأول أمر ياغي سيان المسلمين بالخروج لتنظيف الخنادق المحيطة بالمدينة. ولم يرسل في اليوم التالي للعمل نفسه إلا النصارى. وجعلهم يعملون حتى المساء، وحين أرادوا العودة منعهم منها قائلاً: «أنطاكية لكم ولكنْ عليكم أن تتركوها لي حتى أُنهي أمري مع الفرنج». وسألوه: «ومن يحمي أولادنا ونساءنا؟» فأجاب الأمير: «أنا أتولى الأمر عنكم». وقد حمى بالفعل عائلات المطرودين ولم يسمح بأن تُمسّ شعرة في رؤوسهم» (16).
في ذلك الشهر، تشرين الأول/أوكتوبر من عام 1097م، كان ياغي سيان العجوز الذي قضى أربعين عاماً في خدمة السلاطين السلاجقة يعيش في هاجس الخوف من خيانة. فهو مقتنع بأن عسكر الفرنج المحتشدين أمام أنطاكية لن يتمكّنوا أبداً من دخولها إلا إذا اطمأنوا إلى وجود تواطؤ داخل أسوارها لأنه لا يمكن الاستيلاء على مدينته باقتحامها، والحظّ للاستيلاء عليها بالحصار والتجويع أقلّ من ذلك أيضاً. والصحيح أن ما يملك هذا الأمير ذو اللحية التي خّطها الشيب من عسكر لا يتعدّى ستة آلاف أو سبعة، في حين يحشد الفرنج قرابة ثلاثين ألف مقاتل، ولكنّ أنطاكية موقع حصين لا يمكن عملياً الاستيلاء عليه، وطول سورها فرسخان وعليه ما لا يقلّ عن ثلاثمئة وستين برجاً مبنية على ثلاثة مستويات مختلفة. والسور المبنيّ بشكل متين من حجارة منحوتة ولبن فوق دعامة مرصوصة يرتفع إلى الشرق فيبلغ جبل حبيب النجّار وتتوّج قمّته بقلعة حصينة. وهناك في الغرب النهر الذي يدعوه أهل الشام العاصي، «النهر المتمرّد»، لأنه يوحي في بعض الأحيان بأنه يجري بعكس ما تجري الأنهار، أي من البحر المتوسط إلى داخل البلاد. ويحاذي مجراه أسوار أنطاكية مشكّلاً عقبة طبيعية ليس من اليسير اجتيازها. وفي الجنوب تشرف التحصينات على وادٍ شديد الانحدار حتى ليبدو مُنْحَدَرُه وكأنه امتداد للأسوار. ومن هذا الواقع يستحيل على المحاصرين حصار المدينة حصاراً كاملاً، ولا يجد المدافعون عنها أي بأس في الاتصال بالخارج والتموّن.
ومدّخرات المدينة الغذائية من الوفرة بحيث تسيّج أسوارها، علاوة على الأبنية والحدائق، مساحات شاسعة من الأراضي المزروعة. وقد كانت أنطاكية قبل الفتح الإسلامي مدينة رومانية سكّانها مئتا ألف نسمة؛ وعدد سكّانها في عام 1097م لا يتجاوزون أربعين ألفاً، وقد حُوِّل كثير من أحيائها التي كانت مأهولة قديماً إلى حقول وبساتين. وعلى الرغم من فقدانها أبهتها الماضية فإنها لا تزال مدينة تثير الإعجاب. وجميع المسافرين ـ حتى وإن قدموا من بغداد أو القسطنطينية ـ يبهرهم من النظرة الأولى مشهد هذه المدينة المترامية على امتداد البصر بمآذنها وكنائسها وأسواقها المقنطرة وداراتها الفخمة الملتصقة بالسفوح المحرجة، المائلة المصعّدة نحو القلعة.
لم يكن ياغي سيان يبدي أي قلق إزاء متانة تحصيناته ولا بشأن مُؤَنه. ولكنّ جميع وسائل دفاعه تغدو عديمة الجدوى إذا توصّل المحاصرون إلى العثور في موضع ما من السور الطويل على متواطيء يفتح لهم باباً أو يسهّل لهم أمر الوصول إلى برج، كما سبق أن حدث في الماضي. ومن هنا كان قراره بطرد معظم رعاياه من النصارى. ونصارى الشرق من الأروام والأرمن والموارنة واليعاقبة، في أنطاكية أو في غيرها، يخضعون منذ مجيء الفرنج إلى اضطهاد مزدوج: اضطهاد إخوتهم في الدين من الغربيين الذين يتهمونهم بالتعاطف مع العرب ويعاملونهم على أنهم رعايا من رتبة أدنى، واضطهاد مواطنيهم المسلمين الذين كثيراً ما يرون فيهم حلفاء طبيعيين للغُزاة. والحدّ الفاصل بين الانتماءات الدينية والوطنية معدوم عملياً في الواقع. فلفظة «روم» نفسها تطلق على البيزنطيين ونصارى الشام الذين يمارسون الطقوس الرومية ويعتبرون أنفسهم من جهة ثانية على الدوام من رعية القيصر؛ وكلمة «أرمني» تُطلق في وقت معاً على كنيسة وعلى شعب، وعندما يتحدّث المسلم عن «الأمّة» فإنما يعني جماعة المسلمين بالذات. وفي خَلَد ياغي سيان أن طرد النصارى ليس من قبيل التمييز الديني، وإنما هو إجراء يشمل في زمن الحرب رعايا قوّةٍ معادية هي القسطنطينية التي كانت أنطاكية تابعة لها زمناً طويلاً ولم تتخلَّ قط عن فكرة استرجاعها.
لقد كانت أنطاكية آخر مدينة من كبريات مدن آسيا العربية تقع تحت سيطرة الأتراك السلاجقة، ففي عام 1084م كانت لا تزال تابعة للقسطنطينية. وإذ أتى الفرسان الفرنج لحصارها بعد ثلاثة عشر عاماً فقد كان من الطبيعي أن يقتنع ياغي سيان بأن الأمر محاولة من السلطات الرومية لاستعادتها بتواطؤ من السكّان المحليين الذين هم في معظمهم من النصارى. وأمام هذا الخطر لم يتحرّج الأمير من طرد «النصارى» ـ أتباع النصاريّ، كما يسمّيهم العرب ـ وأشرف بنفسه على تموين الناس بالقمح والزيت والعسل، وكان يتحقّق يومياً من التحصينات فارضاً أشدّ العقوبة لقاء أيّ إهمال. فهل كان ذلك كلّه كافياً؟ ليس ما هو أدنى إلى الريب، ولكنّ التدابير المتّخذة لا بدّ أن تسمح بالصمود بانتظار وصول المَدَد، فمتى يصل؟ إن من يقيم في أنطاكية يلحّ في طرح هذا السؤال، وليس في وسع ياغي سيان أن يجيب عنه بأكثر ممّا في وسع رجل الشارع. ومنذ بدء الصيف، وكان الفرنج ما يزالون بعيدين، أوفد ابنه إلى قادة الشام لإعلامهم بما يتربّص بمدينته من خطر. ويخبرنا ابن القلانسي أن ابن ياغي سيان قد تحدّث في دمشق عن الجهاد. ولكنّ الجهاد لم يكن في بلاد الشام في القرن الحادي عشر (الميلادي) سوى شعار يرفعه الأمراء الواقعون في ضيق. ولكي يقبل أميرٌ بأن يُنجد أميراً آخر فلا بدّ أن يجد في إنجاده بعض النفع لنفسه، وعندها فقط يتجلّى له أن يتذرّع بالمبادىء الكبرى.
والحقّ أن أيّ مسؤول غير ياغي سيان نفسه لم يكن في ذلك الخريف من عام 1097م يشعر بأنه مهدّد مباشرة بالغزو الفرنجي. وإذا كان مرتزقة الإمبراطور راغبين في استعادة أنطاكية فليس هناك ما يخرج عن المألوف لأن هذه المدينة طالما كانت بيزنطية. وكان الاعتقاد السائد أن الروم لن يذهبوا إلى أبعد من ذلك على كل حال. ولأن يكون ياغي سيان في ضيق فليس ذلك حتماً بالأمر المزعج لجيرانه. فلقد عبث بهم منذ عشر سنوات زارعاً التفرقة، مؤجّجاً التحاسد، قالباً موازين التحالفات. وإذ يطلب إليهم الآن أن ينسوا صراعاتهم ويسعفوه فهل يدهش لرؤيتهم يتخلّفون عن النهوض لنجدته؟