أنت هنا

قراءة كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحروب الصليبية كما رآها العرب

الحروب الصليبية كما رآها العرب

ينطلق هذا الكتاب من فكرة بسيطة: سرد قصة الحروب الصليبية كما نَظَر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في «المعسكر الآخر»، أي في الجانب العربي. ويعتمد محتواه بشكل حصريّ تقريباً على شهادات المؤرخين والاخباريين العرب في تلك الحقبة.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

إن ياغي سيان، بوصفه رجلاً واقعياً، يعلم أنهم سيجعلونه ينتظر عبثاً، وأنهم سيجبرونه على استجداء العون، وأنهم سيحملونه على دفع ثمن مهاراته ودسائسه وخياناته. ولكنه يتصوّر مع ذلك أن الأمر لن يبلغ بهم حدّ تسليمه مغلول اليدين والقدمين إلى مرتزقة القيصر. وبعدُ فإنه لم يَسْعَ إلى أكثر من ضمان بقائه حيّاً وسط وكر لا يرحم من الزنابير. والصراعات الدامية لا تعرف التوقّف في العالَمِ الذي يتخبّط فيه صاحب أنطاكية، عالم الأمراء السلاجقة، وهو مضطر، شأنه شأن أمراء المنطقة الآخرين، إلى اتخاذ موقف. فلو حدث أن كان في الصفّ الخاسر فالموت في انتظاره، أو على الأقل السجن والنكبة. وإذا حالفه الحظّ وكان في المعسكر الفائز فإنه يتمتّع بنصره إلى حين ويكافأ ببعض السبايا الحسناوات قبل أن يتورّط من جديد في صراع يخاطر فيه بحياته. وعلى المرء لكي يحافظ على وجوده أن يراهن على الجواد الصالح، لا أن يعاند في المراهنة على الجواد نفسه باستمرار. وأي خطأ كفيل بأن يودي بصاحبه، وقلّة قليلة هم الأمراء الذين ماتوا في أسِرَّتهم.
والحياة السياسية في بلاد الشام كانت تسمّمها لدى وصول الفرنج «حرب الأَخَوَيْن»، وهما شخصيتان عجيبتان كأنهما أفلتتا للتوّ من مخيّلة قصّاص شعبي: رضوان ملك حلب، وأخوه الأصغر دُقاق ملك دمشق، وكلاهما يضمر للآخر بُغضاً مُقيماً لا يسمح لهما معه شيء، ولا حتى خطر يتهدّدهما معاً، بالتفكير في التصالح. وعمر رضوان في عام 1097م أكثر من عشرين سنة بقليل، ولكنْ تحيط به مع ذلك هالة من السحر وتشيع من حوله أشدّ الحكايات إثارة للرعب. وقد كان قصير القامة نحيلاً حادّ النظرات وإن نمّت نظراته أحياناً عن خوف. وربما كان قد وقع، كما يقول لنا ابن القلانسي، تحت سلطان «حكيم منجّم» ينتمي إلى فرقة الحشاشين التي كانت قد أبصرت النور منذ عهد قريب، وسيكون لها دور مهمّ على امتداد زمن الغزو الفرنجي، وتتجّه أصابع الاتهام ـ وليس ذلك من غير سبب ـ إلى ملك حلب باستخدام أولئك المتعصّبين للتخلّص من خصومه. ولقد أيقظ رضوان بجرائم القتل وانعدام التقوى وتعاطي أمور السحر الحذرَ في نفوس جميع الناس، ولكنّ أشدّ البغضاء وأقواها كانت التي أثارها كنف أسرته بالذات. فلدى ارتقائه العرش عام 1095م دبّر خنق اثنين من إخوته الصغار خشية أن ينازعاه السلطان ذات يوم؛ ولم ينجُ ثالث إلا بالهرب من قلعة حلب في الليلة التي كان مقدّراً فيها أن تُطبِق أيدي العبيد القوية على خناقه. وكان هذا الناجي دُقاق الذي نذر لأخيه الأكبر مذّاك كرهاً أعمى. وقد التجأ بعد هربه إلى دمشق فأعلنته حاميتها ملكاً. وعاش هذا الشاب الضعيف الإرادة، الشديد التأثّر بالآخرين، السريع الغضب والعطب، يساوره هاجس رغبة أخيه في قتله. وإذ كان مقدّراً لياغي سيان أن يجد نفسه بين هذين الأميرين نصف المجنونين فإن مهمّته لم تكن باليسيرة. فجاره المباشر هو رضوان الذي تقع عاصمته حلب، إحدى أقدم مدن الدنيا، على مسيرة أقل من ثلاثة أيام من أنطاكية. وكان ياغي سيان قد زوّجه ابنته قبل وصول الفرنج بعامين، ولكنّه سرعان ما أدرك أن هذا الصهر يطمع في ملكه فأخذ بدوره يخشى على حياته منه. وفرقة الحشاشين تقضّ مضجعه كما تقضّ مضجع دُقاق. وإذ كان طبيعياً أن يقرّب الخطر المشترك بين الرجلين فقد توجّه ياغي سيان أوّل ما توجّه إلى ملك دمشق حين كان الفرنج يزحفون على أنطاكية.
ولكنّ دُقاق لا يقرّ له قرار. لا لأن الفرنج يخيفونه، وهذا ما يؤكّده، ولكنْ لأنه لا يرغب في سَوْق جيشه إلى جوار حلب متيحاً بذلك لأخيه فرصة الانقضاض عليه من خلف. ولقد أرسل إليه ياغي سيان ـ وكان يعرف مقدار صعوبة انتزاع قرار من حليفه ـ ابنه شمس الدولة، وهو شاب نابه مندفع مشبوب العاطفة لا يعرف التراخي. ورابط شمس في البلاط الملكي يلحف في الطلب من الملك ومستشاريه مخاتلاً تارة ومهدّداً طوراً. بيد أن صاحب دمشق لم يقبل المسير على مضض بجيشه نحو الشمال إلا في كانون الأول/ديسمبر 1097م، أي بعد شهرين من بدء معركة أنطاكية. ورافقه شمس لأنه كان يعلم أن أمام دُقاق متسع من الوقت للعدول عن رأيه خلال أسبوع من المسير. والحقّ أن الملك الشاب كان يبدو أكثر ضيقاً كلما أوغل في الطريق. وفي الحادي والثلاثين من كانون الأول/ديسمبر، وكان جيش دمشق قد قطع ثلثي الرحلة، التقى زمرة من الفرنج كانوا قد جاءوا يعيثون فساداً في تلك الناحية. وعلى الرغم من تفوّق دُقاق العددي والسهولة النسبية التي نجح بها في تطويق العدو فإنه رفض إعطاء الأمر بالهجوم. وقد أتاح ذلك للفرنج الذين كانوا قد فقدوا صوابهم في وقت من الأوقات فرصة الثواب إلى رشدهم والتخلّص من الطوق المضروب. وعندما شارف النهار على الانتهاء لم يكن هناك غالب ولا مغلوب، ولكنّ الدمشقيين كانوا قد فقدوا من الرجال أكثر ممّا فقد خصومهم: وما كان دُقاق بحاجة إلى أكثر من ذلك لِتَهِنَ عزيمته، فإذا به يأمر رجاله على الفور بأن يعودوا أدراجهم على الرغم من توسّلات شمس المفعمة بالقنوط.
وفي أنطاكية أثار ارتداد دُقاق أشدّ المرارة، ولكنّ حُماتها لا يستسلمون. وفي تلك الأيام الأولى من عام 1098م دبّ الاضطراب، ويا للعجب، في معسكر المحاصرين. فقد أفلح كثير من جواسيس ياغي سيان في الانسلال إلى صفوف العدو. وكان بعض أولئك المخبرين يتصرّفون بدافع الكره للروم، ولكنّ معظمهم كانوا من نصارى المدينة الآملين في الحُظوة لدى الأمير جزاء ما يفعلون. فقد تركوا أُسَرَهم في أنطاكية وهم يَسْعَوْن إلى ضمان سلامتها. والمعلومات التي ينقلونها تُدخِل الطمأنينة إلى قلوب السكان: فبينما لا تزال مؤن المحاصَرين وفيرة فإن الفرنج فريسة للمجاعة. ولقد أُحصي منهم مئات الموتى، ومعظم مطاياهم ذُبحت. وكانت غاية الحملة التي اصطدمت بجيش دمشق هي بالضبط العثور على بعض الخِراف والماعز ونهب الأهراء. وكانت تنضاف إلى الجوع نكبات أخرى تحطّم كل يوم مزيداً من معنويات الغُزاة. فقد تساقط المطر بلا انقطاع مؤكداً اللقب الزقاقي الذي يُطلقه أهل الشام على أنطاكية وهو «الشخّاخة» وغرق معسكر المحاصِرين في الوحل. ثم إن هناك هذه الأرض التي لا تنفكّ تُزَلْزَل. إن أهل المدينة قد أَلِفوا أمرها، وأما الفرنج فلا ينفكون يرتعدون منه فَرَقاً؛ وجلبة صلواتهم عندما يجتمعون للابتهال إلى السماء معتقدين أنهم ضحايا عقاب إلهي تتعالى فتُسمع في المدينة. ويقال إنهم قرّروا لكي يهدّئوا من غضب الله تعالى أن يطردوا من معسكرهم البغايا ويغلقوا الحانات ويمنعوا القمار بالنرد. وكثيرة هي حالات الفرار، حتى في صفوف القادة.

الصفحات