أنت هنا

قراءة كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحروب الصليبية كما رآها العرب

الحروب الصليبية كما رآها العرب

ينطلق هذا الكتاب من فكرة بسيطة: سرد قصة الحروب الصليبية كما نَظَر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في «المعسكر الآخر»، أي في الجانب العربي. ويعتمد محتواه بشكل حصريّ تقريباً على شهادات المؤرخين والاخباريين العرب في تلك الحقبة.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

وما إن انقضت وهلة الأيام الأولى حتى جدّ السلطان في التحضير للانتقام، «فشرع في الجمع والاحتشاد وإقامة مفروض الجهاد» (10)، كما يقول ابن القلانسي. ويضيف مؤرخ دمشق أن قلج أرسلان «استدعى من أمكنه من التركمان للإسعاد عليهم والإنجاد فوافاه منهم (...) العدد الكثير» (11).
والواقع أن هدف السلطان الأول هو عقد حلف مع دنشمند، إن مجرّد هدنة غير كافية، ومن الملحّ في الوقت الحاضر أن تتّحد قوّات آسيا الصغرى التركية كما لو كانت جيشاً واحداً. وقلج أرسلان واثق من استجابة منافسه. ولما كان دنشمند مسلماً ورعاً بقدر ما هو مخطّط حربيّ واقعيّ فقد قدّر أنه مهدّد من جرّاء توغّل الروم وحلفائهم الفرنج. وإذ كان يفضّل لقاءهم على أراضي جاره على أن يلقاهم على أراضيه فإنه لم يتلكّأ في الوصول إلى معسكر السلطان يحفّ به ألوف من فرسانه. وتآخى الفريقان وتشاورا ووضعا الخطط. وأدخل منظر ذلك الحشد من المحاربين والخيول وقد غطّى التلال الطمأنينة إلى قلب الزعيمين، فلسوف ينقضّان على العدو ما إن تسنح الفرصة للانقضاض.
وأخذ قلج أرسلان يتربّص بفريسته وقد زوّده عيونه المنبثّون بين الروم بمعلومات نفيسة. فالفرنج يجاهرون بقرارهم متابعة طريقهم إلى أبعد من نيقية وبرغبتهم في بلوغ فلسطين. وحتى خط سيرهم بات معروفاً: سوف ينحدرون نحو الجنوب الشرقي باتجاه قونية المدينة المهمّة الوحيدة التي لا تزال في يد السلطان. وعليه فسوف يعرّض الغربيون جُنوبهم للهجمات على امتداد هذه المنطقة الجبلية التي لا مناص لهم من اجتيازها. وجماع الأمر هو في اختيار موقع الكمين. والأمراء الذين يعرفون المنطقة جيداً لا يتردّدون. فهناك بالقرب من مدينة «دوريله» على مسيرة أربعة أيام من نيقية موضع ينحدر فيه الدرب إلى وادٍ قليل العمق، وإذا تجمع المحاربون الأتراك خلف التلال لم يكن عليهم سوى الانتظار.
وعندما بلغ قلج أرسلان في أواخر شهر حزيران/يونية من عام 1097م أن الغَربيين يرافقهم جيش صغير من الروم قد غادروا نيقية كان قد تمّ تجهيز الكمين في موضعه. ولاحت طلائع الفرنج في الأفق في اليوم الأول من شهر تموز/يولية، وكان الفرسان والمشاة يتقدّمون بهدوء، ولم يكن يبدو عليهم قطّ أنهم يرتابون بما ينتظرهم. وكان أخشى ما يخشاه السلطان أن يكتشف روّاد العدو أمر خديعته، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يكن على ما يظهر. أمرٌ آخر أثلج صدر الملك السلجوقي هو أن الفرنج يبدون أقل عدداً مما كان قد بلغه. فهل يكون جزء منهم قد بقي في نيقية؟ إنه ليجهل ذلك. ومهما يكن فإنه يتمتّع للوهلة الأولى بالتفوّق العددي. وإذا أضيف إلى ذلك امتياز المباغتة فلا بدَّ أن يعود اليومُ عليه بالخير. وقلج أرسلان متوتّر الأعصاب، ولكنه واثق. وكذلك هو دنشمند الحكيم الذي يزيده بعشرين سنة من الخبرة والتجربة.
كانت الشمس قد بزغت لتوّها من خلف التلال عندما صدر الأمر بالهجوم. وتعبئة المحاربين الأتراك حسنة التنظيم، وهي التي كفلت لهم التفوّق العسكري في الشرق منذ نصف قرن، وجيشهم مؤلف كلّه تقريباً من فرسان خِفاف يحسنون استعمال الأقواس بشكل يثير الإعجاب. إنهم يتقدّمون ويمطرون أعداءهم بوابل من السهام القاتلة ثم يبتعدون بأقصى سرعة تاركين المجال لصفٍ جديد من المهاجمين. ولقد أدخلت بضع موجات متلاحقة منهم فريستهم بعامّةٍ في طور الاحتضار، وعندها بدأوا يستعدون للالتحام بها والإجهاز عليها.
ولكن السلطان القابع فوق ربوة هو وأركان جيشه كان قد لاحظ بقلق في يوم معركة «دوريله» تلك أن الطرق التركية القديمة لم تعد لها فعاليتها المألوفة. والحق أن الفرنج لا يتمتّعون بأية رشاقة، ولا يبدو أنهم على عجلة للردّ على الهجمات المتكرّرة. ولكنهم يُبدون مهارة فائقة في فنّ الدفاع، وتكمن قوّة جيشهم الرئيسية في تلك الدروع الصفيقة التي يغطّي بها الخيّالة أجسادهم، وحتى أجساد مطاياهم أحياناً. وإذا كان تقدّمهم بطيئاً متثاقلاً فإنهم محميّون بشكل تامّ من السهام. ولقد أسقط منهم النبّالة الأتراك في ذلك اليوم عدداً كبيراً من الضحايا، ولا سيما في صفوف المشاة، بعد عدة ساعات من العراك، ولكن معظم الجيش الفرنجي سَلِم. فهل يلتحم بهم وجهاً لوجه؟ إن ذلك ليبدو ضرباً من المخاطرة: إنه في المناوشات الكثيرة التي جرت حول ساحة المعركة لم يكن فرسان السهوب قطّ أكفاء لتلك القلاع البشرية الحقيقية. هل يمدّ أجل مرحلة الإرهاق إلى ما لا نهاية؟ من المحتمل جداً، وقد زال الآن فعل المباغتة، أن تصدر المبادرة عن معسكر الخصم.
وكان قد سبق أن نصح بعض الأمراء بالانكفاء عندما لاحت من بعيد غيمة من الغبار. إنه جيش فرنجي جديد يقترب، وهو بمثل عدد الجيش الأول، ولم يكن أولئك الذين كانت تدور معهم رحى الحرب منذ الصباح إلا الطليعة، وليس أمام السلطان من خيار، فعليه أن يأمر بالانسحاب. وقبل أن يتمكن من التنفيذ بلغه أن جيشاً فرنجياً ثالثاً يُشاهَد خلف الخطوط التركية على تلّة مشرفة على خيمة القيادة العامة.
وأسلم قلج أرسلان قياده إلى الخوف هذه المرة فوثب على صهوة جواده وكرّ صوب الجبال تاركاً حتى خزنته الشهيرة التي كان يحملها معه على الدوام لدفع رواتب عساكره. وتبعه دنشمند عن قرب، وكذلك فعل معظم الأمراء. وتمكّن فرسان كُثُرٌ من الابتعاد بدورهم مستفيدين من الامتياز الوحيد الباقي لهم، وهو السرعة، فلم يقدر الغالبون على اللحاق بهم. وأما معظم الجنود فلبثوا على أرض المعركة محاطين بأعدائهم من كل جانب. وقد كتب ابن القلانسي فيما بعد أن الفرنج «كسروا عسكره (أي عسكر قلج أرسلان) فقتلوا منهم وأسروا ونهبوا وسَبَوْا» (12).
والتقى قلج أرسلان في أثناء فراره زمرة من الفرسان كانوا قد قدموا من الشام للقتال إلى جانبه فباح لهم بأن الأوان قد فات. فأولئك الفرنج كُثُرٌ أشدّاء، ولا سبيل لصدّهم. وإذ كان السلطان المهزوم قد قرر انتظار انقضاء الإعصار فقد قرن القول بالفعل وتوارى في رحب الهضبة الأناضولية. ولقد كان عليه أن ينتظر أربعة أعوام كاملة قبل الانتقام.
وبدت الطبيعة وحدها قادرة على الصمود في وجه الغازي المجتاح. فجفاف الأراضي وضيق الدروب في الجبال وحرارة الصيف على طرق غير ظليلة تعوق بعض الشيء تقدم الفرنج، وهم بحاجة بعد «دوريله» إلى مسيرة مئة يوم لاجتياز الأناضول في حين أن شهراً واحداً كان يكفيهم. وكانت انباء الهزيمة التركية قد طبّقت آفاق الشرق في تلك الأثناء. ويقول مؤرخ دمشق في ذلك: «وتواصلت الأخبار بهذه النوبة المستبشعة في حقّ الإسلام فعظم القلق وزاد الخوف والفَرَق» (13).
وسرت شائعات متلاحقة عن وصول الفرسان المرهوبين الوشيك. وفي آخر شهر تموز/يولية ورد الخبر بقربهم من قرية «البلانة» الواقعة في أقصى شمال الشام. وتجمّع ألوف الفرسان لمواجهتهم، ولكنه كان إنذاراً كاذباً ولم يَلُحِ الفرنج في الأفق، فأخذ أكثر الناس تفاؤلاً يتساءلون عما إذا لم يكن الغزاة قد عادوا أدراجهم، ويردّد ابن القلانسي صدى ذلك عبر واحد من تلك الرموز الفلكية المحبّبة إلى قلوب معاصريه فيقول: «وفي شعبان (سنة 490هـ) ظهر الكوكب ذو الذؤابة من الغرب وأقام طلوعه تقدير عشرين يوماً ثم غاب فلم يظهر» (14). ولكن سرعان ما تبدّدت الأوهام فأخذت الأنباء تزداد دقّة، وأصبح بالإمكان منذ منتصف شهر أيلول/سبتمبر متابعة تقدّم الفرنج من قرية إلى أخرى.
وفي الحادي والعشرين من شهر تشرين الأول/أوكتوبر 1097م تعالت الصيحات من أعالي حصن أنطاكية أكبر مدينة في الشام «إنهم هنا!»، واندفع بعض المتسكّعين صوب الأسوار، ولكنهم لم يروا سوى غيمة مبهمة من الغبار بعيداً جداً في طرف السهل قرب بحيرة أنطاكية، فما يزال الفرنج على مسيرة يوم، وربما أكثر، وكل شيء يدعو إلى الاعتقاد بأنهم راغبون في التوقّف لنيل قسط من الراحة بعد رحلتهم الطويلة. ومع ذلك فإن الحيطة تقضي بالإسراع في إقفال أبواب المدينة الخمسة المتينة.
وهدأت جلبة الصباح في الأسواق، وسكن الباعة والشارون، وقامت بعض النسوة يتلون الأدعية، وران الخوف على المدينة.

الصفحات