هذا النص حلم بكل "سميحة" كنتها، ولكن المخاتل والخطير، أن واحدة فقط، هي التي صارت عليها تلك الكثيرات، واحدة فقط تكتب عنهن، عن لحظاتهن، عن أماكنهن وأزمانهن، هي أنا، لن يكون عدلاً صياغة عوالمهن المدفوعة بحب اكتشاف الحياة وفق نظرتي التي تصور لي أنني أعرف أكثر،
أنت هنا
قراءة كتاب على جناح الطير - سيرة المدائن
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أصابني البلل في رأسي وجسدي، نفش شعري المربوط بإحكام إلى الخلف مثل قطة شرسة، وتصبب وجهي وجسدي ما ظننته عرقاً! بدأت شقيقتي الطفلة التي بالكاد تتلفظ الكلمات بالبكاء، زجرتها أمي وشدتها وراءها ونحن نهبط سلّم الطائرة، كانت أمي بارعة في التنقل بين الحزم والحنان وفق الحاجة إليهما، تطاير انزعاجنا ونحن نرى قامة أبي النحيلة الطويلة تلوح لنا بين جموع المستقبلين.
تناسينا مخاوفنا ودفعنا له بسلال الفاكهة التي أضحكته وإن بدأ يتناولها وهو يقود أول سيارة خاصة ننعم بها، ورحت ألتهم بعيني المدينة الصحراوية، لم يقع ناظري على شجرة على امتداد الرمل الأصفر الراقد تحت فضاء مثقل بالهواء اللزج، وانكسر الحلم قبل أن يلتمع البحر أزرق رائقاً مواسياً سنوات الغربة المنتظرة.
أقمنا في شارع الكهرباء، كانت رفاهية "الكهرباء" قد غزت المكان حديثاً، جاءت مع الوصاية والانتداب البريطاني، سماها القطريون "كهرب"، ولم يكونوا قد وقعوا على لفظ عربي يدل على الدائرة الزجاجية التي تأتي بالنور بمجرد ضغطة زر، فكانوا يقولون "شب الليت"، أي أشعل الضوء، في هذا الشارع الفاتن، أضيئت أنوار طفولتي بمعارف جديدة، معارف لا علاقة لها بليالي المزرعة، وأحضان الجدات والعمات والأخوال، غرباء نصنع لنا أسرة جديدة.
بالنسبة لي، صار الشارع الذي يضاء ليلاً بخط من "لمبات" الكهرباء؛ قيداً.. موحشاً وممنوعاً وغريباً، كانت النسوة العربيات مفزوعات من مجتمع استجلب كل تلك العمالة التي تنطق خليطً من لغات، هندية وباكستانية وبلوشية وإيرانية، مئات، بل آلاف الرجال العزاب يجوسون بيننا، العرب والقطريون على حد سواء كانوا يعيشون تلك الهواجس التي تصدر عن معسكر العمل الهائل الذي صارت الدوحة عليه، كل الرجال في الشارع وحوش محتملون.. شارع تقطنه عائلات عربية قليلة، وتنتشر فيه دكاكين الهنود والبتان، كل من لا يتكلم العربية موضع شك واتهام مسبق، أتطامن مع التعليمات وأتماشى معها مرغمة، وفي أعماقي لا أصدقها، لا أعتقد أبداً أني مرشحة لكارثة من نوع التحرش الغامض الذي تنبه منه أمي، والذي تتبادل حوله التفاصيل مع النسوة العربيات الخائفات. لسبب غير واضح اعتقدت دوماً أني سيدة جسدي، لا أحد يملك التحرش به أو الإساءة إليه، حتى وأمي تصنف المجتمع الغريب على أنه مجتمع ذئاب محتمل، كنت على صغري أفهم الإشارات، وأتحرك في عالم الرجال بثقة مبالغة من دون خوف يذكر، بل بذكاء "خلند" شاطر يعرف كيف يتقدم ويبتعد، لم أسمح لتلك الحالات المفزعة أن تصادر طفولتي، حتى وأنا أسمع الصغيرات في المدرسة يذكرن تفاصيل مشوشة عن أساليب الرجال، تجارب ملتاثة بالهم والخوف والفضول والرغبات.
كنت مشغولة البال بسحر بحر الدوحة، وألفة لياليها، وتفتق الخيال على الدنيا، أستعد لطفولة ماتعة سيكون آخر عهدي بها عام 1970، حين تقلع طائرتي مغادرة الدوحة نهائياً.
يقع بيتنا على الشارع العريض الوحيد قليل السيارات، مساحة ممتدة، حديقتنا ساحة ترابية واسعة! وبيتنا مكون من غرف كثيرة، ومطبخ فسيح يصلح لمغامرات أمي في إقامة الدعوات، ونشر قدور المنسف الكبيرة من جميد وأرز.. الباب الخلفي يطل على الساحة الترابية.. حيث لا نبات ما عدا شجرة ضخمة شوكية بعض الشيء. لم أكن أعرف من الشجر إلا الزيتون والتفاح والعنب، شجرتنا القطرية الجديدة، شجرة السدر، أو كما يسمونها "النبق"، تففتُ ثمرتها لدى تذوقي إياها للمرة الأولى، ولكني أغرمت بمذاق حبتها المدورة في ما بعد، حتى عندما تنضج ويشاركنا الدود غزوها، فإني أعالجها من الأطراف كي أشاركه بعض الحلاوة الشحيحة في قلب الثمرة.
أمي دائمة الحديث عن أشجار الزيتون والمشمش واللوز، تحن إلى داليتنا في جبل اللوبيدة، ويفجعها خلو السوق من البندورة والخيار والكوسا، كما لو أن العالم ناقص، تقضي العطل الصيفية في الأردن، تشك الباميا، وتيبس الملوخية، وتعصد رب البندورة، تجفف خضاراً، وتجمد غيرها في سبيل إيجاد كل ما تبتغيه طوال العام، احتاجت الدوحة إلى سنوات لتعمر سوقها بالبضائع المنوعة، أمي عاشقة اللون الأخضر ابنة المرأة الشامية، لم تقنع بشجرة السدر الكبيرة في ساحة البيت، عَدّتها بورقها الصغير الباهت نبتة صحراوية عاطلة عن الجمال والعطاء، ولم تتعود صداقتها إلا بعد أن تمكنت بإصرار من زرع رمل الساحة الترابية بالبقدونس والنعنع والخس، بإضافة بعض التراب المستجلب؛ روضت أمي رمل الدوحة لتزرعه.
في الدوحة ينفتح فضاء للعناق، بحر أزرق صاف، ورمل ذهبي يرمي على الشاطئ أصدافه كأنها وعد سحري لكنز من اللآلئ، بدا كل شيء مشرقاً، كلما التقطت صدفة فتحتها؛ والأمل بظهور اللؤلؤة لا ينقطع، لم تعنني الحالات المزاجية الكئيبة التي أطلقت عليها أمي اسم الغربة، دموعها التي تنهمر بلا مبررات، وركضها نحو أبي تسأل عن الرسائل كل ظهيرة، بينما أستعد بحماسة وفرح للمشوار المسائي اليومي في سيارة "الأوستن" البيضاء التي نمتلكها، والتي تشعرني شخصياً بأننا من الأثرياء، ولى عهد الدين والتقتير المادي، وأصبحنا نمتلك سيارة ننحشر في مقعدها الخلفي، ونولي وجوهنا صوب الشارع العاطل عن الجمال والبنيان، أنتظر انسكاب الأزرق في عيني، وفي لحظات أجدني على سِيف البحر، أداعب الموج ويلاعبني، ألقي جسدي في أحضانه، وأضاحك إخوتي وأسابقهم ونحن نتصايح، فإذا ما قاربت الشمس على الغياب، انغرس القمر مثل برتقالة عملاقة في خاصرة البحر، ونثر دماءه موجاً يلعب، وعلى صفحة السماء صور من الجمال لم يسبق لي رؤيتها ولو في الخيال، ينبهني فرط الجمال أن في الكون خفاءً كبيراً لن أدركه، وتشحذ تصوراتي عن الدنيا، أتخيل ما لم يكن أبداً على وجه البسيطة، ولن يكون.