في هذه الرواية تقدم الكاتبة عالم الطفولة وعالم المرأة من خلال طرح شخصيتها على محك السرد واستدعاء شخصية أمها (قسامي) وجعلها في كثير من أجزاء الرواية الشخصية الرئيسية طارحة الرؤى الكثيرة في الحياة بأسلوب غير وعظي، إنما بأسلوب سير الحياة بصورة طبيعية، ومن خلال
أنت هنا
قراءة كتاب قسامي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وصلنا إلى مطار بنينة الصغير ودخلنا صالة الإنتظار فجلست صحبة طفلي على الكرسي اللدائني البارد بينما ذهب زوجي لإنهاء الإجراءت، وظلت مهجة تشاكس أصدقاء والدها الجالسين قربنا وهم يضحكون من بعض مواقفها الطريفة وشقاوتها الزائدة عن الحد.. ثم استلطفت سائحة أوروبية فأجلستها إلى جنبها وأعطتها ورقة بيضاء لترسم فخربشتها مهجة بخطوط نالت إعجاب السائحة الفنانة.
الصديقة الصحفية إلهام بن على نزعت وشاحها الصوفي المزركش بألوان ليبية هافتة وأوقفتني من على الكرسي البارد مرددة "أنت حامل" وطرحته خلف ظهري فشعرت بدفئها الروحي قبل أن يطالني دفء الوشاح المخضب بمثلثات تانيت، ابتسمت بود وجلست بجانبي تؤانسني لحظات لا أدري كيف مرقت سريعاً من فرط حلاوتها، تجاذبنا أطراف الحديث الشيق حول مدي مقدرة الإنسان في الإصرار وإزاحة العراقيل العارضة والصعبة وغير المألوفة لبلوغ هدفه ونيل مراده:
- بصراحة أنت استطعت أن تثبتي وبجدارة كل ذلك وهذا واضح من إصرارك على الارتباط بالروائي محمد رغم غرابة أطواره وظروفه غير المحمسة للاقتران بأي امرأة بدءاَ من خطواته السريعة التي لا أدري كيف استطعت مجاراتها إلى ضعف سمعه إلى سرحانه إلى هوسه الجنوني بالكتابة الطاغية حتي على هيئته وهندامه فهو لا يكتب من أجل النشر بل يكتب ليحكي كما قال جبرائيل جارسيا ماركيز في سيرته الذاتية أو ربما يكتب لشيء آخر لم نكتشفه بعد، أرى أن الكتابة صارت له تماماً كالهواء الذي يحيا به، يستنشق عبير مايدور حوله من أحداث بدءاً من صعوده الحافلة مروراً بالشارع ومقاهي النت والفندق البلدي وشوارع بنغازي العتيقة وسوق الحوت والحدائق العامة وحتي مجلة الثقافة العربية ومؤسسة الصحافة والمنتدى الإذاعي، يسجل في ذاكرته الأحاديث العابرة التي تدور سريعاً بينه وبين الكثيرين، ليزفرها لنا من خياله الخصب الذي لا يعرف الجفاف روائح إبداعية فوّاحة، ماشاء الله عليك وأنت واقفة إلى جانبه تشجعينه باستمرار ولا تفتعلي له المشاكل التي تفتعلها بقية الزوجات.
أول معرفتي به قرأت له نصاً نشر بجريدة الجماهيرية الصفحة الأخيرة في 18 - 7 – 1999 م بعنوان "من مذكرات شجرة" مازالت ذاكرتي محتشدة بشيء منه سأقرأه سريعاً الآن:
لا أستطيع أنْ أبدأ منذ الأزل.. فالأزل مازال مجهولاً.. رغم كل ما قيل عنه من نظريات نقلية أو عقلية? ولكني سأبدأ من يوم كنت جزءاً من شجرة باسقة غرستها الرياح ذات فجر في جوف جبل أشم.
الأمطار تغسلني شتاء والصيف يجفف كل ما يؤذيني من رطوبة وبرد? أسعد بزقزقة العصافير وثغاء المواشي وعواء الذئاب? كنا نصنع حفيفاً شجياً وقت الغروب.. أحياناً أسترق السمع لأناس يجلسون متوسدين أقدام أمي أنظر إليهم وهم يتهامسون في هدوء كأنهم يدبرون مكيدة? تهتـز أمي مع الرياح فنرقص معها ولكنها سرعان ما تـتوقف وتبكي بدمع من صمغ خاثر. ذات صباح سمعنا دوياً وهـرجاً ومرجاً كأنها القيامة قامت وفجأة انهالت على أقدام وبطن أمي مناشير مشرشرة من المعدن وفؤوس حادة كلسان يتكلم! وطوقت رقابنا حبالاً تجذبها بغال قوية ونداء بشع يصرخ (بهيلا هـُب) الطعنات تأتي من كل حدب وصوب، لا تفرق بين جذع أو غصن أو ورقة.. صرخت أمي (وامعتصماه) تـناثرت نشارات دموعها وبدأ عنقها يصغـر حتى خـرّ تماماً لم ينجدها أحد، كانت الزراعة نائمة والمرشد يتـفرج على مباراة في كرة الصدر، أما شرطة النبات فلديهم (زردة) مع مدرسة البنات في بطن الوادي..
اجتـثت أمي المسكينة.. لم يرحموا أوراقها التي تخرّفت قبل الخريف ولا ثمارها التي أطعـمت الجائعين.. اقتادها نخاسو الفحم، جرجروها على الصخر.. بكى الظل لفراقها وشعر أنه هو الذي اجتث? في الماضي كان بكاؤه في منتصف النهار فقط! أما الآن فسيـبكي هذا الظل الشجرة منذ أنْ كانت شتلة وبدأت تكبر وهو معها? كان يفارقها في منتصف النهار فقط أما باقي الوقت فدائماً معها، أحياناً تسأل الشجرة الظل لماذا أنت أناني? تجعلني دائماً درعاً واقية لك من أشعة الشمس، أحبّ ظلك الليلي لأنني لا أتألم من الحر، ولكن ظل النهار مؤلم وتصرخ فيه مازحة: يا أناني.. يـبتسم لها الظل قائلاً:
لن يحبك أحد أكثر مني والظل الذي نكونه أنا وأنت ليس لمصلحتـنا وإنما لمصلحة الغير، الغير المحتاج لهذا الظل، الأرض التي لا تستطيع أنْ تحتمل الحرارة طويلاً، الحيوانات الهاربة من القيظ، عابري السبيل، ألا تريني أقصر وأطول وأدور? لا أعرف أين أقسّم نفسي، المهم أنا حزين جداً لفراقك.
قام نخاسو الفحم بجرّنا بواسطة دواب قوية، دفنونا في خندق مستعر، كان سجناً مظلماً لا هواء فيه، كوة واحدة تركوها، ليس من أجل إنعاشنا ولكن من أجل أنْ لا تخبو النار، أهالوا علينا التراب، حتى دُفنا أحياءاً، أخذت أموت رويداً في هدوء.
أحياناً أنام فأحلم بنار إبراهيم عليه السلام? أحلم ببرد وسلام.. ولكن أين كوني؟ أين? أشعر أن لحمي وعظامي وعصارتي تحترق.. ولكن روحي لا يحرقها اللهب.. قد تحرقها دمعة أو كلمة أو ابتسامة صادقة.. ولكن اللهب النار الأتون.. لا.. لا.. لا.. ثم أستيقظ لاستقبال مزيد من الكي والاختـناق والتـفحم.
بعد عـدة أيام تـفحّمتُ، أصبحتُ لا أدري ما أنتظره أو بالأحرى ما ينتظرني.
هل هناك نار أخرى بعد التـفحم? هل ستـُحرق روحي أيضاً? كيف? ومن الذي سيحرقها? وأين أمي? أشعر أنّ أمي مازالت في الأرض، مازالت بذرة...