هذه مجموعة من مقالات فواز طرابلسي في السفير خلال السنتين المنصرمتين. لقد أراد لها أن تكون رؤية للأحداث "من زوايا أخرى" غير تلك التي تقدمت بها من أطراف النظام والطبقة السياسية اللبنانية أو من مراكز القرار الدولي أو الحكّام.
أنت هنا
قراءة كتاب من زوايا أخرى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

من زوايا أخرى
نهاية الحلول الثنائية والمسؤولية العربية
إذا كان للحروب من ميّزات فمنها ميّزة نادرة: تشكّل المواجهات الحربية حالات من الوضوح استثنائية، تسمح لمن يرغب ويجهد أن يكتشف من النوابض والعوامل والمسارات ما يكون متوارياً تحت سطح الواقع أو ضامراً أو محتملاً في الأحوال العادية.
كثُر الحديث منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان ومقاومته عن نهاية الحلول السلمية للصراع الإسرائيلي العربي. هو حديث يقع في دائرة الوضوح. لذا يستحق أن يؤخذ على محمل الجد وأن يثير ما يستدعيه من أسئلة وتأملات ومهمات.
السائد في الموقف العربي من الصراع الإسرائيلي العربي هو التوهم بأن السلطات الإسرائيلية، بل إسرائيل ذاتها، تحتاج إلى السلام وأن الدول العربية هي التي تستطيع منحها ذلك السلام. حقيقة الأمر ان الرأي العام الإسرائيلي مال مع حزب العمل وإسحق رابين ذات مرة نحو إمكان تسوية سلمية تقوم على الفصل بين اليهود والفلسطينيين خشية الطغيان السكاني الفلسطيني. فكان شعار «غزة-أريحا أولاً». وكان ذلك في ظروف انتقالية شديدة الغموض تتعلق باضطراب دور إسرائيل في المنظومة الأميركية، بُعيد انتهاء الحرب الباردة، وتبدّل الأمر اثر اغتيال إسحق رابين ومجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل (وقد سبق العمليات الفلسطينية المسماة استشهادية). فجاء قرار نتنياهو بالــــ«التباطؤ» في تطبيق اتفاق أوسلو.
وبلغ هذا المسار ذروته مع مجيء أرييل شارون إلى الحكم، إذ نجح في تحقيق أمرين: الأول، هو تحقيقه التطابق الكامل مع السياسة الإمبراطورية الأميركية في إعلان حرب لا نهاية لها ضد «الإرهاب». أما الأمر الثاني ولعله الأهم فهو نجاح شارون في أن يحقق ما لم يحققه سياسي إسرائيلي من قبل. إذ جمع بين نزعة التوسع الاستيطاني وضم الأراضي التي تميّز اليمين الإسرائيلي وبين نهج الفصل العنصري (الجدار) الذي يطمئن الهاجس السكاني لدى حزب العمل (تأمين أكثرية سكانية حاسمة في الدولة اليهودية). تأسيساً على هذين الأمرين، بات لسان حال شارون: مَن يستطيع منح السلام هو من يستطيع شن الحرب.
بدأ الانفصال الكامل بين واقع الصراع الإسرائيلي العربي الموصوف أعلاه وبين الرد العربي عليه مع صدور مقررات قمة بيروت عام 2002. فبدلاً من التصرف على أساس أن مجيء شارون هو تعطيل نهائي لعملية السلام، جرت المزايدة السلموية العربية: سلام واعتراف كاملان مقابل الانسحاب من الأراضي كلها. وهذه القراءة المغلوطة والمفوتة للصراع لا تزال تتكرّر منذ ذلك الحين.
لم تكن الحلول الثنائية الإسرائيلية العربية مقدمات متتالية للحل الشامل. بل بالعكس تماماً، نجحت إسرائيل في استغلالها لتجويف الموقع الفلسطيني وعزله والاستفراد به. فلم تؤد اتفاقيتا كامب ديفيد ووادي عربة إلى تحييد أكبر بلد عربي وإخراجه من دائرة الصراع وحسب وإنما حوّلت النظامين المصري والأردني إلى حارسين لأمن إسرائيل عبر نهر الأردن ومعبر فيلادلفيا، وفي أحسن الأحوال إلى وسيطين بين إسرائيل والفلسطينيين وسائر العرب.
من جهة ثانية، كانت قراءة مغلوطة للانسحاب من غزة. لم يكن الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من غزة انسحابا تليه انسحابات. جاءت خطة «الانطواء» لتعيد احتلال القسم الأكبر من الضفة الغربية لا يبقى منه للفلسطينيين أكثر من 13 في المئة وتجميعهم في ثلاثة معازل أو أكثر مخروقة بالطرق والحواجز والمستوطنات الإسرائيلية، ناهيك عن طي البحث في الانسحاب من الجولان المحتل. بعبارة أخرى، قضت خطة «الانطواء» على ما تبقى من خريطة الطريق العتيدة، على ما في تلك من الابتعاد أصلاً عن أي أمل في دولة فلسطينية مستقلة.
أخيراً، قامت السياسة الإسرائيلية، منذ أوسلو فصاعداً، على فرضية أن وظيفة الدول المجاورة، بما فيها السلطة الفلسطينية، هي تأمين أمن إسرائيل. وعند عجزها عن فرض الانصياع الفلسطيني وتالياً اللبناني بعيد تحرير الجنوب لذلك التفسير، بوشر الإعلان بأن لا شريك فلسطينياً للسلام. أسقطت صفة الشريك أولاً عن ياسر عرفات. فمورست ضغوط أميركية وعربية لتوسيع صلاحيات رئيس وزرائه محمود عباس على حسابه. ولما خلفه محمود عباس رئيساً للسلطة الوطنية، لم يحظ هو أيضاً بصفة الشريك. وطبعاً، رفضت السلطات الإسرائيلية الاعتراف بإسماعيل هنية رئيساً للوزراء، مع أنه فاز في «انتخابات حرة متنازع عليها وتحت إشراف دولي». وسوف تكون واهماً إن ساورتك الظنون بأن السياسة الإسرائيلية سوف تتبنى محمود عباس بعد انتصار حركة حماس الانتخابي. وهو الوهم الذي دفع بمحمود عباس إلى احتضان أولمرت في بتراء الأردن، برعاية المليك عبد الله، وضحايا مجزرة الشاطئ في غزة لم يحضنها التراب بعد، ليفاجئه رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه أي أبو مازن ليس المحاور المطلوب لأنه ليس رئيساً للوزراء!
خلاصة القول إن الحسم بأن الحلول السلمية قد انتهت ليست كلمة تقال على سبيل التطرف اللفظي أو ترصيعاً لافتتاحية أو عمود رأي. إنها تكتسب معاني ملتهبة التهاب المواجهة الجارية الآن بأجساد المقاومين والمدنيين والعسكريين اللبنانيين. لأن جوهر تلك المجابهة إنما هو الرفض الإسرائيلي لوجود أي رادع عربي في وجه غطرستها الدموية. وإعلان انتهاء «الحلول السلمية». يعني:
أولاً، إعلان موقف عربي رسمي وشعبي صريح وواضح بأن لا شريك إسرائيلياً في عملية السلام.
ثانياً، إعلان الدولتين المعنيتين تعليق معاهدتي كامب ديفيد ووادي عربة. والعودة إلى البحث الجماعي والشامل للنزاع الإسرائيلي العربي. ويخطئ من يعتقد أنه يمكن تفعيل الحل الثنائي الإسرائيلي السوري على الجولان من خلال دور ما لدمشق في الحرب الدائرة ضد لبنان والمقاومة.
ثالثاً، إعادة استجماع عناصر القوة العربية كلها. البعض يقترح التهديد برفع سعر النفط (غسان تويني، النهار، عدد 17 تموز 2006). هذه مغامرة. ونِعْم المغامرات! يمكن أن يضاف إليها التهديد بسحب الأرصدة العربية من أوروبا والولايات المتحدة، ومنها 200 مليار مستثمرة في أميركا وحدها، و80 في المئة منها خليجية؟ وعلى عكس الشائع، فقد ازدادت الاستثمارات العربية في أميركا بعد 11 أيلول، بدلاً من العكس. ونكتفي بهذا المقدار في مضمار الضغوط الاقتصادية.
كثيرون سوف يعيّروننا بالمغامرة. عدونا يكسب بالمغامرة والمقامرة والاستهتار بما لا يناسبه من مقررات «الشرعية الدولية». وسوف يذكّرنا آخرون بأن الأنظمة العربية عاجزة عن تحقيق ما نطالبها به، بل هي رافضة لذلك، تحديداً لأنها تستمد شرعيتها من الولايات المتحدة وهي حريصة أن ترضيها بدل أن ترضي شعوبها. وهذا عين الصواب. إن البحث عن سر التخاذل العربي الرسمي لم يكن مرة في غياب «النخوة» ضد العدو وهي غائبة وإنما هو كامن دوماً في الرضوخ للسيد الأميركي!
ولكن، حكّامنا العرب نحن مسؤولون عنهم بأكثر من معنى. كثير منا قد انتخبهم. وكثير منا قد اعتاد عليهم. وكثير منا لا يمارس واجبه في مساءلتهم ومحاسبتهم والضغط عليهم لتنفيذ سياسات نظنها منسجمة وتطلعاتنا والمصالح، وصولاً إلى الانقلاب عليهم وتغييرهم. الأمر غير المقبول هو الاستمرار في تبرئتهم بحجة أن لا شيء يُرجى منهم!
هذه النقاط الثلاث للتأمل والنقاش لأننا زُهقت أرواحنا من صرخات «يا وحدنا»، وبأننا نخوضها «نيابة عن الأمة جمعاء». ولأننا سئمنا بلاغة «القاع العربي الذي لا قرار له» أو نقيضه الإرادوي الظفراوي الكاريكاتوري عن «الاستنهاض»، ناهيك عن هتافات «بالروح بالدم نفديك، يا...».
ترتقي السياسة إلى مستوى المجابهة الحربية عندما تدرك أن السلام تصنعه إرادات قادرة على ردع الواحدة منهما الأخرى. ولا تصنعه القوة المتغطرسة العاتية مع الخنوع والاستجداء. وأن السلام، عندما يتحقق، حالة من الصراع لا من الاستكانة والرضوخ. وهذا هو المعنى العميق للمجابهة الجارية الآن على أرض لبنان.
ويشهد الدم اللبناني أنه قد بلّغ.
19/7/2006