أنت هنا

قراءة كتاب الأصولية والعقلانية - دراسات في الخطاب الديني العُماني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الأصولية والعقلانية - دراسات في الخطاب الديني العُماني

الأصولية والعقلانية - دراسات في الخطاب الديني العُماني

تتسم أعمال هذه الدراسة وأحداثها المتفاوتة بخاصية ضمنية تُحرّكها، وتتحكم فيها، ألا وهي ظاهرة التجانس والانسجام الموضوعي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6

جماعات بدون ذاكرة

لا تكتفي الخطابات المهيمنة في المجتمعات التقليدية، بمحاولات إخفاء، وتغطية بقية الخطابات المتزامنة من الفضاء العمومي، بل تعمل وبشكلٍ أساسي، وممنهج، على محو وإلغاء كل ما يختلف عن الخطاب المحوري الأساسي، ذلك أن هذه التغطية لا تهدف إلى الصفح والنسيان، وإزالة عوامل التوتر، وبؤر الجدل، فالذاكرة الشعبية الشفهية مليئة بهذه المماحكات التي تتزايد بشكلٍ مستمر نتيجة الكثير من العوامل والمعطيات التاريخية والنفسية.
فهي تهدف (الخطابات المهيمنة) إلى إيصال تصور تخييلي للمتلقي عن تسامح الواقع، واحتضانه للكثير من الخطابات المختلفة معه.
فلكي تتم إزالة عوامل التوتر، أو التقليل منها، في أحسن الأحوال، ينبغي انكشاف الذاكرة الجماعية التاريخية للجميع، بحيث يتمكن المتلقي من متابعة تقاطع مسار الخطابات المتعايشة في الفضاء المعاش بشكل واضح وصريح.
ذلك أن الإخفاء والتغطية ـ وهما مرتبطان بالكثير من الأمراض النفسية ـ غير مأموني العواقب، ومجهولي النتائج، بحيث إن كل طرف مرتبط بهذه الخطابات، يكتب تاريخه كيفما يشاء، واضعاً نفسه في خانة الضحية التاريخية التي ينبغي لها أن تنُصف، حتى وإن كان الواقع التاريخي يذهب باتجاهٍ آخر. أضف إلى ذلك أننا نجد أن الخطاب المسيطر، والذي ينتمي إليه المؤرخون في معظم الأحوال، نجدهم وبشكلٍ طبيعي إلى حدٍ ما، يكتبون تاريخ انتصاراتهم أو لحظات تضررهم التاريخي، ولا يكتبون لحظات تهميشهم، وظلمهم لمن معهم أو للمتعايشين في فضاءاتهم. فالمهمش لا ذاكرة له، ولا تاريخ يتحدث عنه، ولا إشارات إيجابية تدل عليه، بل هو نكرة، يتم النظر إليه بنوع من العطف والشفقة، بل ويتم التعامل معه على أساس الوجود الشاذ، الذي ينبغي إخفاؤه والتستر على وجوده لكي لا تصاب المركزية الخطابية المتخيلة بجرح نرجسي، فهو كالمرآة التي تعكس ـ إلى حدٍ كبير ـ الأوهام التي تعيشها ذات الخطاب.
على المستوى التاريخي المرتبط بوضع الخطابات الاعتقادية في الفضاء العُماني القديم والمعاصر، نجد أن هناك الكثير من الأنظمة الاعتقادية الإسلامية وغير الإسلامية التي كانت تتعايش في هذا الفضاء، حيث إننا نجد أن «عمرو بن العاص وهو كان وقتها عاملاً (والياً) للنبي (ص) على عمان، جاءه يوماً يهودي من يهود عمان» (6) يخبره بوفاة النبي.
بالرغم من قِصر هذه الإشارة إلاّ أنها تدل على وجود عدد لا بأس به من اليهود أثناء وصول الإسلام إلى عمان، وعلى وجود مكانة جيدة في هذا الفضاء لليهود، بحيث تستدعي قبول الوالي لما جاء به، وتصديقه، بدون أي جدال ونقاش حول مصداقية الخبر.
يندرج منطوق هذه الإشارة في سياق التسامح الإسلامي المراد إيصاله للمتلقي، وذلك بوجود تعددية مجتمعية في عنفوان المد الإسلامي وقوته، وعدم إجبارهم على التخلي المكاني والاعتقادي، إلا أن المضمر هنا، والمستغرب ربما، هو السكوت شبه التام، سواء على مستوى الخطابات التاريخية أو الاجتماعية (7)، عن مصير الثقافة اليهودية وغيرها في عُمان بعد الهيمنة الإسلامية بشكلٍ عام، والإباضية بشكلٍ خاص.
إذا كان الحضور اليهودي خافتاً يصل إلى حد الندرة، في الخطاب الديني ـ التاريخي العُماني القديم، فإننا لا نجد أي إشارة تذكر، عن الخطاب المسيحي النصراني القديم، وذلك ربما لمقتضيات تاريخية بحتة، في التاريخ العماني، في حين نجد أن هناك تجاهلاً يصل إلى حد الإخفاء والمنع (8)، لما يسمى لاحقاً بالحملات التنصيرية المعاصرة، التي تهدف إلى تنصير المسلمين.
حيث إن هذه الحملات قد بدأت من العام 1811م، حينما وصل القسيس الإنكليزي هنري مارتن إلى مسقط، معلنا بذلك بدء هذه الحملات بالتضافر مع الكثير من الجهود الأميركية ـ البريطانية، والتي استمرت حتى العام 1973م، عندما حُلت الإرسالية العربية نهائياً من قبل مؤسسيها في الولايات المتحدة الأمريكية. وبين هذين الزمنين المتباعدين، زمن البداية وزمن النهاية الرسمية، هناك الكثير من الأحداث التي كانت ربما على وشك أن تغير خارطة الخطابات في الفضاء العماني المعاصر، ذلك أنه وفي العام 1970م، نشأت جالية نصرانية في عمان، لم يكتب لها التوسع والازدهار، ربما لغلبة البعد السكاني، والحس الاجتماعي العام.
لا نجد أي ذكر لهذه الحملات في التاريخ العماني، باستثناء هذا الكتاب، وهي تطرح تساؤلات حول موقع المؤرخ العماني، وأفقه الرؤيوي الذي يسيره، تجاه الأحداث، والاهتمامات التي تجعله يؤرخ لأحداثٍ معينة دون الأخرى، أقول ذلك وأنا أفكر في تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، وكيف تسنّى لهذه التحفة التاريخية تجاهل هذه الأحداث، في مقابل إيراد أحداث أخرى ربما أقل أهمية من الناحية الموضوعية والمصيرية، ولكنها أكثر حساسية في نفس المؤرخ، وأشد خطورة على مساره الاعتقادي كما يرى ذلك.
ثمة انتقاء في مسار الخطابات، انتقاء للحظات المفترض التأريخ لها، والكتابة عنها، فليس من المعقول أن تحظى كل الأحداث بشرف الدخول في سجلّ التاريخ العماني، فهذه المسارات متفاوتة الأهمية، ذلك أن الأهمية لا تأتي من الحدث ذاته، فالحدث لا يكتسب أهميته بمعزل عن الروابط النفسية والعقلية للمؤرخ.
تنطبق هذه الرؤية الأخيرة، على رؤية الأحداث والوقائع داخل النظام الاعتقادي الإسلامي، ففي السياق العماني، حيث يورد لنا السالمي في تحفته السالفة الذكر (9)، العديد من الأحداث التي تتعلق بالهجمات التي «قامت بها «الوهابية» في «غزوة جعلان» (10)، والبريمي، لمخالفتهم الإمام، ولعدم الانقياد لأحكامه، ولم يرضوا أن يكونوا تبعاً له، وذلك لاعتقادهم الفاسد» كما يقول.
وإذا كان لهذه الوقائع التاريخية نصيب من الصحة والواقعية، وهذا ما نفترضه، فإن السكوت المبالغ فيه عن تاريخ التواجد الشيعي في عمان، يجعلنا نطرح الكثير من الأسئلة حول الأسباب الاعتقادية للتأريخ العماني.

الصفحات