أنت هنا

قراءة كتاب دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب

دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب

يجلس المثقف النخبوي في مجلس القبيلة، يداعب وهم الانتماء إلى القوم، أو بالأحرى يحاول إيهام القوم بانتمائه من أجل تحريك جلمود الصخر القبلي الذي "خطّه السيل من علٍ" منذ أزمنة لم يمر عليها الزمن... كأن الزمن العربي زمن ذرّي لا يتواصل، أو رملّي بلا امتداد...

تقييمك:
3.5
Average: 3.5 (2 votes)
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

تاريخ ما بين العصبيّة والتعصّب

إنَّ الإسلام يتصل بمجتمع القبيلة السياسي السابق لكل دولة وأمَّة في التاريخ. ومجتمع القبيلة هذا هو «متحد سياسي» وليس رابطة نسب فقط، ولهذا المجتمع تاريخيّته الموضوعيّة وإن لم تحسب التنقيبات عدد قرونها بدقّة بعد، إلَّا أنَّ جواد علي يقدّرها بما يزيد عن الألف «بل وقد ثبتت الأبحاث أنَّه يصل إلى الألفي سنة»(11). وبديهي أن يكون لهذا التاريخ الموضوعي عمقه الذاتي الموازي له في شكل مثالات مجتمع العصبيّة المتعدّدة المستويات، تلك العصبيّة التي، بقدر ما كانت مثالاتها توحّد وتصلب بنية الجزء القبلي، كانت تدمّر الكل الاجتماعي.
«ليس من العلم في شيء إذن، أن نتصوّر أنّ الإسلام قد نقض بالكلمة، شكلاً ألفيّاً من أشكال الوعي القبلي، أو أنّ الإسلام قد خلق العرب من نقطة الصفر» (النزعات 304). ذلك أنَّ الوعي هو الوجود الواعي، أو هو وعي الوجود الاجتماعي. ومن هذا القانون الماركسي الركني صاغ مروّة موضوعة أنّ «ذاكرة الجاهلي الذي دخل عصر الإسلام تبقى ذاكرة جاهليّة حتى تتأصّل لديه ذاكرة إسلاميّة تنفي تلك ولن تنفيها حتى يمارس الإسلام عصره ممارسة عمليّة تتحوّل إلى وعي بشكل ذاكرة جديدة» (النزعات 356)، وهذه حقيقة ثانية.
ولكن هل أتيح لهذه الذاكرة الجديدة أن تتأصّل في التاريخ والثقافة؟
الملاحظ أنَّ مروّة يبقى شديد الالتصاق بالنهج الاجتماعي الماركسي بحيث لم يُعنَ بالعصبيّة في ذاتها بالمعنى الفلسفي ـ النفسي، أي كمفهوم مُجرّد يشتمل العصبيّة في شتّى مستوياتها وإحالاتها (عائلة، قبيلة، عشيرة، مذهب، دين وعرق) كما فعل هيغل حين أنتج من هذه العصبيّات مفهوم «التعصّب»(12)، وحدّد جذره في البعد الانفعالي من النفس، أي اللاعقلاني، معتبراً أنَّ التعصّب هو هوى (Passion) أي عاطفة أُحديّة، جموح، تستبق العقل إلى الفعل قبل أن يدركها العقل، وتمتلك هي العقل ولا يمتلكها العقل. وقد اعتبر هيغل أنَّ خصوصيّة العربي هي «عمل المتعصّب بامتياز»(13). وأدرك بنظرة صائبة أنَّ المثالات التوحيديّة الإسلاميّة استهدفت تحرير العربي من خصوصيّة الجسد بـ«الصيام» وخصوصيّة التملّك بـ «الزكاة»، وخصوصيّة القبيلة وحروبها بـ «الجهاد»، وأنَّ الإسلام قد ارتقى بخصوصيّة العصبيّة الجاهليّة إلى مستوى الإيمان الديني الأعمّ و«أنَّ التعصّب المحمّدي كان قادراً على تحقيق أعظم قدر من ارتقاء الروح المتحرّر من المصالح الصغيرة، والمتّحد بكلّ الفضائل المتعلّقة بالشهامة والشجاعة»(14). ويفسّر هيغل سرعة انتشار الفتوحات الإسلاميّة المذهلة بهذا الإعصار التعصّبي الذي اجتاح به الإسلام العربي مساحات فاقت فتوحات الاسكندر(15). إنّ التدقيق في النصّ الهيغلي يبيّن تداخل المثال الإسلامي بمثالات ما قبله. فالعصبيّة بقيت، لكن تسامت، والشهامة والشجاعة، أي الفروسيّة العربيّة القبليّة هي الأخرى ارتقت وعدّلت وجهتها والوظيفة.
نحن هنا لم نخرج عن نصّ حسين مروّة إلَّا لنعود إليه. ولم نضع النصّ الهيغلي إلى جانب نصّه إلَّا لتوضيح هذا النصّ بشكل أفضل. إنَّ هيغل معنيّ بالجانب الفلسفي ـ النفسي لمثالات التوحيد، بينما يعلن مروّة أنَّ «العمق الاجتماعي لمعنى التوحيد» هو الذي يعنيه حصراً، وليس المضمون الإيماني لهذا المثال التوحيدي (ص 334).
وعلى الرغم من اهتمام هيغل بالجانب الفكروي، دون البعد الاجتماعي الذي كان موضع عناية مروّة، إلَّا أنَّ جدليّة هيغل العقليّة تلتقي جدليّة مروّة الاجتماعيّة على قاعدة ملاحظة الاثنين لظاهرة التفاعل الجدلي بين مثالات التوحيد الإسلامي من جهة، ومثالات ثقافة ما قبل الإسلام من جهة أخرى، في جدليّة صعود وارتقاء بالثانية، وليس جدليّة تنافٍ وتدمير ميكانيكي. إنَّ هيغل قارب المفاهيم الركنيّة التوحيديّة الإسلاميّة من زاوية إبراز فعلها في تطوّر العقل أو الروح الكوني الحرّ العاقل الذي هو روح اجتماعي راشد يدرك أنَّ الأنا الفرديّة (العصبيّة في إطار ثقافتنا) هي «نحن» الجماعيّة. وقد شهد، كما لحظنا، لقدرة الإسلام في صبيحة نهوض الارتقاء بعصبيّة العربي من خصوصيّة القبيلة إلى الخصوصيّة الإيمانيّة، وهي أرقى، لكنّها، تبقى عصبيّة، أي انفعال، هوى، تعصّب، لا يدرك مبدأ العقل الراشد.
أمّا مروّة فإنَّه يبيّن عمليّة الجدل الارتقائي، ليس على قاعدة فكر ـ فكر، وإنّما على قاعدة فكر ـ وجود، ويظهر عمليّة انبناء الذاكرة الإسلاميّة الجديدة ضمن الإطار المؤسّسي الجديد، إطار الجماعة ـ الأمّة والدولة الناظمة والمشروعة. في هذا الباب تطالعنا موضوعتان:
الأولى اقتصاديّة تربط بين ظهور الإسلام من جهة، و«تطوّر مجتمع العلاقات التجاريّة الذي كانت تتنامى قاعدته المادِّيَّة بما يتطلّب ضرب الأطر والعصبيّات القبليّة وصهر المجموعات البشريّة القائمة على طرق التجارة وفي المراكز التجاريّة تتوحّد كلّها ضمن إطار اجتماعي واحد، في مؤسّسة واحدة، أو قل دولة موحّدة» (ص 355).
الموضوعة الثانية، فهي فكرويّة، تتصل بالوعي الجديد الواجب الوجود، الذي لا بدّ وأن يشكّل الروح الثقافي للدولة الجديدة. وعلى هذا المستوى يلتقي مروّة هيغل لجهة استبانة جدل الذاكرة القديمة الفاعلة مع الذاكرة الجديدة، جدل كان قاسياً بالفعل في مسار تاريخنا الثقافي السياسي، والمطارحة التراثيّة المأزومة المستمرّة منذ قرن ونصف قرنٍ تقريباً تؤكّد صعوبة مخاض لا يفضي إلى تركيب أعلى قومي ـ إنساني، محلّي ـ عالمي، يحتكم إلى معيار الفعل المعرفي والمعرفة الفاعلة في بناء حضارة المستقبل. إنَّ مروّة يظهر التفاعل الارتقائي ذاته الذي أدركه هيغل بين مثالات ما قبل الإسلام والمثالات الإسلاميّة من خلال تبيانه لوظيفة التشريعات الإسلاميّة المدينيّة التي خاطبت الذاكرة القديمة حين شرعت الغزو وشفعته بالعطاء والغنائم، كما خاطبت الذاكرة القديمة في التشريعات المتعلّقة بنظام الأراضي المفتوحة. إنَّ وظيفة هذه التشريعات المدينيّة الأولى كانت «التحريض»، يقول مروّة، أي تزويد الجند الإسلامي بـ «حافز مادِّي للانخراط في عمليّة الفتح والانتشار، خارج الجزيرة القاحلة، باندفاع حماسي يعزّز الاندفاع الإيماني لدى المؤمنين من جند الفتح» (356).

الصفحات