يجلس المثقف النخبوي في مجلس القبيلة، يداعب وهم الانتماء إلى القوم، أو بالأحرى يحاول إيهام القوم بانتمائه من أجل تحريك جلمود الصخر القبلي الذي "خطّه السيل من علٍ" منذ أزمنة لم يمر عليها الزمن... كأن الزمن العربي زمن ذرّي لا يتواصل، أو رملّي بلا امتداد...
أنت هنا
قراءة كتاب دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
وإذا كانت العناصر الوجوديّة والفرويديّة المستوعبة في ماركسيّة حمدان قد ميّزته بحساسيّة رهيفة تجاه كل قمع يمنع تحقّق الشخصيّة، وجعلته يقرن الماركسيّة بالديموقراطيّة السياسيّة ـ الثقافيّة، فإنَّ امتلاك مروّة الواسع والعميق للتراث العربي الإسلامي عبر السنوات العشرين التي أمضاها في النجف دارساً ومنقّباً وكاتباً فيه، هو الذي مكّنه من وضع خميرة الماركسي الفاعل في عجينه. ذلك أنَّ مروّة تأصّل قبل أن يتمركس، تجذّر في المحلّي قبل أن ينفتح على العالمي، واستوعب خصوصيّة شعبه الثقافيّة قبل أن يستوعب قوانين الجدل الاجتماعي والتطوّر التاريخي العامّة.
إنَّ أهمِّيَّة حسين مروّة، تتمثّل في قدرته على تأصيل الفرع الماركسي على الجذع الحيّ من التراث العربي الإسلامي، مستدركاً بذلك ثغرة أساسيّة خطرة كانت تعيب بنية الفكر الماركسي العربي. ذلك أنَّ المثقّف الماركسي بقي مسكوناً بالرهبة من التراث، فجهله أو تجاهله، دار حوله وداور، وفي المحصّلة عجز عن التماسك مع تراثه، وقبل بوضع «المساكنة»، مما جعل العروي يلاحظ «أنّ السّاكن الإيديولوجي بين ماركسيّة وإسلام يتماسّان دون أدنى تداخل جعل الإيديولوجيا الإسلاميّة في وضع متفوّق: أنّها تؤكّد ضرورة التميّز عن الغير، وتهدف إلى أخذ الثأر من قدر جائر؛ في حين أنّ الماركسيّة، على حالتها التي وصفناها، تخضع لأنسيّة فارغة وتعلّل بذلك التقهقر المستمرّ المخزيّ. كيف نتعجّب إذن، من أن يحتفظ الإسلام كإيديولوجيا في هذه الأحوال بقدرته الكاملة على اجتذاب القلوب والعواطف»؟(29)، هنا تكمن أهمِّيَّة إعادة إنتاج التراث من داخله، بحيث لا تعود الماركسيّة هي ذلك الفكر المستورد بالكامل، والغربي بالكامل، ولا يبقى التراث هو ذلك المخزون الديني الشرقي الغيبي بالمطلق. وهذا يؤدّي إلى العودة بالاشتراكيين إلى بيت تراثي يتّسع لهم على رحابة، وتمليك مغتربي الحداثة، وبينهم الكثير من المثقّفين الشيوعيين، هويّة قوميّة وروحاً عروبيّاً وخصوصيّة إسلاميّة ثقافيّة حضاريّة تنجدل مع العام الماركسي على قاعدة الحاجة الحاضرة إلى النهضة وفلسفة النهوض. لقد اعتنى مروّة بنقد «الفراغ البائس» الذي تقوم عليه دعوة الفئة المغتربة في الإنتلجنسيا العربيّة إلى «حذف التراث الثقافي» وعدم التعامل معه. إنَّ هذه الفئة هي مغتربة عن المكان، لأنَّها في هروب مستديم إلى الغرب الذي يشكّل مصدر حداثتها. وقد نقد مروّة ما وصفه بـ «العدميّة الثقافيّة»(30) لهذه الفئة لأنّها تفتعل التناقض مع التراث عن جهل أو تجاهل، كما نقد السلفيين الاتباعيين المغتربين عن الزمان، الهاربين من الحاضر إلى الماضي. إنّ مغترب الحداثة، أو مغترب المكان، يدعو إلى قطع الحاضر عن الماضي لتغريب المجتمع العربي عن أصالته وجذره التاريخي وانتمائه؛ أمّا الرجوعي، مغترب الزمان، فهو المرتدّ عن حاضره وزمنه يحاول اقتلاع المجتمع العربي والفكر العربي من موقعهما في الحاضر، «وكلا الأمرين اغتراب عن الحاضر، من حيث كون مفهوم الحاضر ليس سوى الوحدة الجدليّة بين الأصالة والمعاصرة» على حدّ تعبير مروّة.
كما رفض مروّة الصيغة التوفيقيّة الرائجة بين الاثنين، أي أنَّه رفض وضع الانفساخ الفاوستي بين جسد وروح يتخالفان. الجسد آلة غربية تستورد، والروح خلق شرقي تروعه فكرة ملامسة الفكر المحرّم. إنَّ هذه الثنائيّة التي سادت ثقافيّاً منذ الجبرتي، وسياسيّاً منذ محمّد علي، هي التي تخلّلت إيديولوجيّة أحزاب الطبقة الوسطى والنخب العسكريّة الحاكمة وأغنتها عن جعل الصناعة حضارة التشكيل: تشكيل المادّة وتشكيل الذات، وإرسائها على قاعدة العقلانيّة الفلسفيّة، والمنهج العلمي التجريبي والديموقراطيّة السياسيّة.
* * *
العقل و«عقل» العقل
يعيدنا اغتيال العقل مرّة أخرى إلى قاموسنا اللغوي «لسان العرب» لنتقصى محتوى كلمة «عقل» فنجد أنَّه يعطيها معنى «الحبس» و«القيد» و«الامتناع» عن ممارسة الهوى «وسمّي العقل عقلاً لأنّه يعقل صاحبه عن التورّط في المهالك، «أي يحبسه» وهذا المعنى مشتقّ كما هو واضح من الحياة الرعويّة وقاموس بداوتها. فهل نقول انطلاقاً من العلاقة الجدليّة بين الفكر واللغة أنَّ قاموسنا اللغوي يجدّد في الوعي نموذج الأعرابي؟(31)
لقد أوضحنا هذا البعد التكويني الأساسي في «اللاوعي الجمعي» أو «اللاشعور المعرفي». ويبقى أن نقف أمام ظاهرة «عقل» العقل والاغتيال هو أقصى درجات التجلِّيات اللاعقلانيّة لهذه الظاهرة.
نلاحظ بدءاً أنَّ أحد أهمّ الأسباب التي جعلت مروّة يتقبّل مسألة تحويل معاوية الخلافة الشورويّة إلى ملك وراثي كإنجاز إداري وحضاري هو أنَّ الخلفاء الراشدين لم يحوّلوا الشورويّة إلى مؤسّسة ديموقراطيّة يصونها التشريع المكتوب. وغياب المؤسّسة الديموقراطيّة من تاريخنا السياسي غيّب التقليد الديموقراطي عن تاريخنا الثقافي والوعي الذاتي وسهّل مهمة تحويل النظام الشوروي إلى ملكيّة وراثيّة من جهة، وإلى سيادة جدليّة الدفع والتنافي الفكري من جهة ثانية.
إنَّ أدونيس الذي قرأ التراث في ضوء مثنويّة ثبات ـ تحوّل، اختصر مأساة الثقافة العربيّة في التاريخ بقول مؤدّاه: «إنَّ التاريخ يظهر أنَّ الإسلام يحمل في باطنه إمكانيّات الاتباع والإبداع، وأنَّ تاريخه سار على طريقين: طريق التحوّل وطريق الثبوت. وأنَّ مأساة الثقافة العربيّة جاءت من عدم لقاء هذين التيّارين لقاء جدليّاً، بل لقاء تناقض وعنف بحيث قضى الواحد على الآخر»(32).
أمّا مروّة، الذي لم يضع الأب والابن في وضع التقابل، وإنّما في وضع التفاعل والتداخل، فقد لاحظ بدوره اتساع وعنف موجة العداء للفكر الفلسفي في تاريخنا الثقافي والتي «كانت أسبق عهداً من زمن الغزالي، بل سبقت زمن الأشعري نفسه... لكن مع الأشعري والغزالي بدأت موجة العداء للفلسفة تصدر عن إدراك صريح ووضوح معرفي يحدّدان أبعاد الخطر على الإيديولوجيّة المسيطرة»(33). وهنا شبه إجماع على أنَّ تضافر كل التيّارات المحافظة ضدّ الفلسفة قد أدّى إلى غياب المصادر الأصليّة لأفكار المعتزلة والحركات الثوريّة (البابكيّة ـ المزدكيّة، القرمطيّة وغيرها من الحركات التي أنتجت إيديولوجيّتها الإسلاميّة الخاصّة)(34).
كذلك، لحظ أكثر من مفكّر ودارس تقدّم الصراع على الجبهة الثقافيّة السياسيّة على ما عداه في التاريخ العربي ممّا أدّى إلى تضخّم وظيفة الإيديولوجيا وإلى تراكم أشكالها المضلّلة في وعي لم يستضف الكثير من الفلسفة والعلم. فقد لاحظ الجابري «أنَّ العلم العربي بقي من أوّل الأمر حتى نهايته خارج مسرح الصراع في الثقافة العربيّة، وبالتالي فهو لم يدخل في أيّة علاقة مع أيّ طرف من الأطراف المتصارعة فيها، لا مع الدين ولا مع الفلسفة. أي أنَّ الصراع في الثقافة العربيّة لم يكن بين الأسطورة من جهة، والعلم من جهة أخرى، كما كان الشأن في الثقافة اليونانيّة، ولا كان بين العلم والدين، كما كان عليه الأمر في التجربة الأوروبيّة الحديثة... وإنّما كان الصراع في تاريخنا الثقافي هو صراع إيديولوجي سياسي مباشر... فاللحظات الحاسمة في تطوّر الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحدّدها العلم، وإنَّما كانت تحدّدها السياسة»(35).