يجلس المثقف النخبوي في مجلس القبيلة، يداعب وهم الانتماء إلى القوم، أو بالأحرى يحاول إيهام القوم بانتمائه من أجل تحريك جلمود الصخر القبلي الذي "خطّه السيل من علٍ" منذ أزمنة لم يمر عليها الزمن... كأن الزمن العربي زمن ذرّي لا يتواصل، أو رملّي بلا امتداد...
أنت هنا
قراءة كتاب دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
محمّد دكروب يستلهم «رؤى مستقبلّية» من الحقبة الليبراليّة
* محمد دكروب اسم ارتبط في ذهن عارفيه باسم مجلّة «الطريق»، تُذكَرُ المجلّة فتستدعي المجلّة اسمه، وتذكر اسمه فتتذكّر المجلّة.
و«الطريق» بالنسبة إلى محمّد ليست اسماً لمجلّة يديرها، بقدر ما هي رمز لحياة يعيشها.
فإذا صدف لك، كما صدف لي مرّات عدّة، أن رأيت محمّد يعبر المكان بين مكتبه في المجلّة وبيته، أي بين بيته وبيته، فسترى رجلاً يمشي قارئاً ويقرأ ماشياً، يبطئ خطوهُ التفكُّر وتستغرقه مقالات المجلّة، فلا يرفع نظره ليرى الطريق... كأنَّ الكلمات تضيء طريقه وتدلّ قدمه، وكأنَّ بين محمّد دكروب و«الطريق» مجلّة وطريقاً، علاقةُ تماثلُ علاقةَ العين بالضوء.
ودكروب العائد إلى الفكر النهضوي أو الماضي الليبرالي هو الشيوعي الذي كسر انهيار الاتحاد السوفياتي حلمه، فراح يستجير بمثالات الثورة الفرنسيّة التي رفع النهضويّون بيارقها علّه يجبر كسور الاشتراكيّة بترياق الحرِّيَّة. ودكروب، العائد إلى عقلانيّة النهضويين وعلمانيّتهم، هو المحاصر بعتمات أصوليّات تتواسع وتتصادم، بعد أن أنهى سقوط الإمبراطوريّة السوفياتيّة صِدام الأفكار والمعتقدات لتبدأ الأصوليّتان الرأسماليّة والإنجيليّة الأنغلو ـ أميركيّة، صِدام الهمجيّات الذي يسمِّيه هنتنغتون «صِدام الحضارات». ودكروب، العائد بماركسيّته إلى الليبراليّة، يستنطق الفكر الليبرالي ليستخلص من تضاعيفه وطواياه مركَّباً فكريّاً يجمع بين الديموقراطيّتين السياسيّة والاجتماعيّة، وهذا في رأيي هو هدف كتاب رؤى مستقبليّة في فكر النهضة والتقدّم والعدالة الاجتماعيّة (دار الفارابي، بيروت، 2002)، ومبرّر وجوده. ولأنَّ المؤلّف ينتمي إلى مدرسة فكريّة تقرن النظريّة بالممارسة السياسيّة، فإنَّ كتابه يحمل الدعوة إلى تحويل المشروع الليبرالي النهضوي إلى مشروع سياسي يدرجه اليسار الاشتراكي على جدول أعماله، ذلك أنَّ مسؤوليّة النهوض بهذا المشروع هي مسؤوليّة هذا اليسار أوّلاً، وليست مسؤوليّة المثقّفين حصراً. والمؤلّف هو حيناً عاتب وحيناً غاضب، لأنَّ الأحزاب التقدّميّة ومثقّفيها، بمن فيهم الشيوعيون، خذلوا المشروع النهضوي الذي استكمله طه حسين ومارسوا معه نهج القطيعة، ونعتوه بالمشروع البورجوازي، في الوقت الذي كانت البورجوازيّة العربيّة المتخلّفة والتابعة تقاوم هذا المشروع لتعارضه مع مصالحها. وهكذا راح مشروع طه حسين، كما يوحي نصّ المؤلّف، ضحيّة تخلّفين وتبعيّتين وسلفيّتين، بورجوازيّة وماركسيّة.
هي إذن، قراءة ثانية لفكر النهضة يدعونا المؤلّف إليها. وهدفه المعلن هو «تأسيس تقليد ثقافي ديموقراطي، ليس غائباً عن تراثنا قطعاً». وهو، في دعوته إلى قراءة ثانية لفكر النهضة، إنّما يستجيب ويثنِّي على مشروع دعا إليه الراحل سعد الله ونّوس، وعبد الرحمن منيف، وفيصل درّاج، وجابر عصفور، وباشروا ممارسته عام 1990، حين أصدروا كتاباً يعيد إنتاج وتسويق مشروع طه حسين الذي يصفه ونّوس بـ «المشروع الجذري والشمولي»، الذي لم يعرف تاريخنا المعاصر ما يماثله». ولكي يكون المشروع مستحقّاً لمرتبة الشرف هذه لا بدّ، من وجهة المؤلِّف الماركسي، أن يكون جامعاً بين الحرِّيَّة والاشتراكيّة. ومحمّد دكروب يحمل قنديل ديوجين باحثاً عن هذين العنصرين، مجتمعين، فإن افترقا اجتهد وتأوّل لجمعهما. وهدفه دائماً هو استعادة المشروع النهضوي المفوّت، وإدراج الحقبة الليبراليّة في سياق تاريخي واحدي مماثل وموازٍ لمسار التاريخ الأوروبيّ. وهو يطالب قوى اليسار والتقدّم بأحزابها ومثقّفيها تولِّي مهمّة إنجاز الثورتين، البورجوازيّة الديموقراطيّة والاشتراكيّة، بعد أن أثبتت البورجوازيّات العربيّة عجزها عن توفير الحامل الاجتماعي للمشروع النهضوي، مستعيداً أفهومة مهدي عامل في أنَّ التحرّر الوطني في العالم الثالث هو مهمّة تنجزها الطبقة العاملة، لا البورجوازيّة بل ضدّ البورجوازيّة. وهو ينقد المثقّفين الذين عيّنوا السبب الرئيسي لفشل مشروع النهضة في الفكر النهضوي نفسه، بدل أن يعاينوه وينقدوه في المستوى السياسي الاجتماعي، أي الطبقي الذي أعجز الروح النهضوي الديموقراطي عن التوطّن في أرض المجتمع والسياسة.
سأركّز مداخلتي على ما أعتبره محور الكتاب ومركزه، أي على المشروع النهضوي الذي بدأه الطهطاوي، واستكمله وأنضجه سلامة موسى، وطه حسين، وأضاف إليه رئيف خوري ولويس عوض.
وكنت أتمنّى لو أنّ الصديق دكروب حصر بحثه وعمّق حفره في نقطة المركز هذه، أي في الأعلام الخمسة الذين ذكرت بدل أن يوزّع مقالاته على عشرة أعلام بينهم توفيق عوّاد، ومصطفى فرّوخ، وأبو شبكة، وكل منهم قيمة في حقله، لكنّهم ثانويّون بمعيار الإسهام في فكر النهضة. وأؤكّد بدءاً، توافقي مع مؤلّف رؤى مستقبليّة بأنَّ مشروع طه حسين، في جانبه العقلاني التربوي والليبرالي، يدخل ضمن رؤيتي إلى المستقبل. لكنّ المشكلة مع طه حسين هي أَن له أكثر من جانب، والمشكلة مع الصديق دكروب أنّه يضيء على جانب ويطفئ على جانب آخر.
الثنائيّة الحضاريّة والنهضوي المثنوي
يبدأ المؤلّف من الطهطاوي، الرائد الأوّل «السابق لزمنه»، كما يلحظ المؤلّف. ولا خلاف في سبق النهضويين جميعاً لزمنهم، لكنّ الذين تقدّموا زمنهم، لم يتقدّموا بزمنهم، وتلك هي المسألة. فأن تتقدّم النخبة إلى زمن الغرب المتقدّم شيء، وأن تتقدّم بالزمن الشرقي المتأخّر شيء آخر. وصحيح أنّ الطهطاوي يكتشف في باريس علوماً غير علوم الدين، وأنَّه يتحسَّر على خلوّ ممالك الإسلام منها، لكنّ الطهطاوي يبقى مع ذلك موصولاً بنبعه الأزهري، وهو يراجعه ويمدحه:
فيه رياض العلم أينع زهرها
فلذلك المعنى تسمَّى الأزهرا