يجلس المثقف النخبوي في مجلس القبيلة، يداعب وهم الانتماء إلى القوم، أو بالأحرى يحاول إيهام القوم بانتمائه من أجل تحريك جلمود الصخر القبلي الذي "خطّه السيل من علٍ" منذ أزمنة لم يمر عليها الزمن... كأن الزمن العربي زمن ذرّي لا يتواصل، أو رملّي بلا امتداد...
قراءة كتاب دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
ـ لماذا عجزت الثقافة العربيّة ـ الإسلاميّة التي بدأت من نهاية العصر الهيلنستي (عصر استقالة العقل)، عن تطوير أدوات المعرفة (مفاهيم، مناهج، رؤية) في ثقافتنا العربيّة خلال نهضتها في القرون الوسطى، إلى ما يجعلها قادرة على إنجاز نهضة فكريّة وعلميّة مطّردة التقدّم على نحو ما حصل في أوروبا منذ القرن الخامس عشر؟ (محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي).
ـ لماذا ساد تاريخنا الثقافي السياسي الشكل المثالي من معرفة التراث؟ أو لماذا كانت الإيديولوجيا الإسلاميّة المثاليّة هي الفلسفة السائدة بينما تمثّلت الفلسفة في نزعات «مادِّيَّة» أو عناصر لا تشكّل بنية في تفرّقها؟ (حسين مروّة، النزعات المادِّيَّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة).
وأخيراً، لماذا يبدو تاريخ الشرق وكأنَّه تاريخ أديان؟ (ماركس).
ما يجمع بين هذه المساءلات رغم اختلاف زوايا طرحها ومناهج معالجتها هو الإقرار بوضع ركودي أو يميل إلى التركّد بفعل ثقل العنصر الإيديولوجي الديني في التاريخ العربي الإسلامي.
لنقارب المسألة من زاوية الإشكاليّة التي تطرحها علينا اللغة العربيّة، لغة تعكس رؤية أصحابها للعالم وصورة فكرهم.
إنَّ قواميسنا القديمة والحديثة تحتوي مفاهيم ومصطلحات، تحتمل معنيين متناقضين، رغم اشتقاق المصطلح من جذر واحد. إنَّ كلمة «تقدّم» مثلاً تفيد معنى الاتجاه إلى المستقبل والاتجاه إلى الماضي في آن؛ وفي المقابل يصبح «المتأخّر» الراجع إلى الماضي في وضع المتقدّم(5)! وهذا المعنى الرجوعي للتقدّم نحو الماضي هو الذي ساد عبر القرون الوسطى. وتتأصّل الإيديولوجيا السلفيّة الإسلاميّة المعاصرة في هذا المعنى الرجوعي للتقدّم، أي المعنى الذي يطابق أسطورة العنقاء الشرقيّة. لقد ربط «هردر» بين خصائص اللغة والأمّة التي تتكلّمها:
«فكل أمّة تخزّن في لغتها تجاربها بما فيها من عناصر الصواب والخطأ فتنقلها اللغة إلى الأجيال الناشئة واللاحقة فتصبح أخطاء الماضي، أو جزء منها على الأقلّ، من ضمن التراث الذي تنقله اللغة عبر الأجيال والذي يساهم في تحديد نظرة أصحابه إلى الكون، إلى الحقّ والخير والجمال»(6).
فإذا ساءلنا قاموسنا اللغوي الأشهر «لسان العرب» عن معنى كلمة «وحد» ومشتقّاتها «وحدة» و«توحُّد»، و«توحيد» و«واحد»، وهي شعارات مركزيّة ترفعها حركات تستند إلى إيديولوجيا إسلاميّة، تردنا مثنويّة معنى الكلمة إلى المشكلة التي نعانيها وجوديّاً مع إيديولوجيا تتحوّل إلى ديماغوجيا، تقول الشعار وتمارس نقيضه(7). فالكلمة تحتمل هي الأخرى المعنى وضدّه. فبينما هي تجسّم في أحد وجهيها معنى المثال الإسلامي التوحيدي الركني الجامع لشتات الأجزاء القبليّة من جهة، فإنَّها تحتوي أيضاً معنى «الانفراد» القبلي والفردي في «زمن الجاهليّة»، أي معنى الانفراد عن الجماعة بدل التوحّد معها، ارتكازاً إلى تصوّر الفرد أنَّه «نسيج من وحدِه» وتوهم الجماعات المغالية في خصوصيّتها بأنَّهم «نسجاء وحدهم»، فتوحِّد ذاتها، أي تُفَرِّدها، لتبقى «أَحدٌ» فريد و«وحيد» أو «واحد لا ثاني له»(8)، تتصوّر أنَّ الروح القدسي حلّ فيها وحدها. والحقيقة هي أنّ ممارسة الرجوعيين السلفيين المغالين في تصوّر خصوصيّتهم، والنخب العسكريّة السياسيّة الوسطيّة، والتي سادت مرحلة عقدي الخمسينيات والستينيات (من القرن العشرين) بشكل خاصّ، تجيء مطابقة لهذا المضمون الضدّي الذي يفيد معنى القطيعة؛ في حين أنَّ السعي إلى «العروة الوثقى» وتوحيد الجماعة الجامعة يشترط الاعتراف بالآخر المختلف، والدخول معه في جبهة متحدة. ومبدأ الجبهة خالفته الحركات السياسيّة المستندة إلى الإسلام كإيديولوجيا منذ نشأتها في الثلاثينيات(9)، كما خالفتها غالبيّة النخب العسكريّة السياسيّة التي خلطت عناصر دينيّة وتراثيّة بالحداثة السطحيّة والبرغماتيكيّة والميكيافليّة، وأنتجت الإيديولوجيا التوفيقيّة أو التلفيقيّة.
أزعم أنَّ ممارسة نهج القطيعة والقطع مع الآخر هي سمة مشتركة بين حركات الرجوعيّة من الإسلام السياسي وغالبيّة النخب العسكريّة والأحزاب السياسيّة التي قادت أو أسهمت في قيادة حركة التحرّر الوطني من موقعها، وإلى موقعها الوسطي. ذلك أنَّ هذه القيادات ذات الأصول الوسطيّة الريفيّة حملت وعياً مسكوناً بالإيديولوجيا الدينيّة السائدة التي صدمتها الحداثة فاعتمدت آليّة دفاعيّة ألقت الحرم على تيّارات «الفكر المستورد»، واستوردت كل ما عدا ذلك. وأزعم أنَّ نهج غالبيّة هذه القيادات الوسطيّة يَشفّ عن مثال العصبيّة كجذر ثقافي أدخلته القبائل معها إلى الإسلام، وقد اجتهد الإسلام في التسامي بالعصبيّة وتعديل وجهتها دون أن يلغيها. لذلك بقيت عنصراً أساسيّاً مكوّناً لوعي العربي ولاوعيه.
إذا ساءلنا مؤلّف مروّة النزعات المادِّيَّة... عن مثال العصبيّة وصيرورته بين الثقافة والوجدان يدلّنا بأداة القانون الجدلي العام إلى علاقة تواصل وانقطاع بين الإسلام وزمن ما قبله، أي يعيد الإسلام إلى أرض تكوّنه ومعطياتها الموضوعيّة، ذلك «أنَّ الإسلام لم يولد من عدم، وليس هو بدء لتاريخ جديد كلِّيّاً في حياة العرب منقطعاً عن تاريخ حياتهم قبل الإسلام، كما يوحي لنا مؤرّخون مثاليّون قدماء وجدد»(10). وهذه حقيقة، وإن كان مروّة لا يذهب عمقاً وسعة في تبيان مؤثّرات الثقافات السامية الأقدم في الإسلام، أو في تتبّع العصبيّة الانفعاليّة القبليّة جذراً وتجلّيات.