يجلس المثقف النخبوي في مجلس القبيلة، يداعب وهم الانتماء إلى القوم، أو بالأحرى يحاول إيهام القوم بانتمائه من أجل تحريك جلمود الصخر القبلي الذي "خطّه السيل من علٍ" منذ أزمنة لم يمر عليها الزمن... كأن الزمن العربي زمن ذرّي لا يتواصل، أو رملّي بلا امتداد...
قراءة كتاب دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
وقد أضاف مروّة بعد تسجيله الظاهرة عينها تفسيره لها، معتبراً أنَّ انحصار الصراع في تاريخنا داخل الدائرة الدينيّة ـ السياسيّة، وبقاء العلم الطبيعي والتجريبي خارج دائرة الصراع، يرجع إلى سيطرة الخليفة ودولته المركزيّة في الشرق سياسيّاً، في حين سيطرت دولة الكنيسة التي تمتّعت بقوّة المركز في الغرب لاهوتيّاً :
«في الشرق كان الخليفة قلّما يخضع للدين، بل كثيراً ما يخضع الدين لسلطته ولمصلحة دولته ومن هنا «أمكن تطوير الاقتصاد والعلم» في منأى عن العسف الذي لحق بالفكر الديني ـ السياسي المعترض». (النزعات، ص 150).
والحقيقة الظاهرة في تاريخ الثقافة العربيّة هي أنَّ القمع لم يكن يطاول الفكر إلَّا بقدر اتصال الفكر بالإيديولوجيا الدينيّة ـ السياسيّة ـ الاجتماعيّة، أي بقدر خروجه من دائرة النظر العقلي التأمّلي ليهدّد وجوداً سياسيّاً قائماً. ولا شكّ أنَّ لجوء كافّة القوى السياسيّة في السلطة وخارجها إلى تأسيس مشروعيّتها السياسيّة في النصّ الديني، أعطى الفكر القادر على عقد الجدل بين الديني والسياسي خطورة بالغة. فالسياسي يعبر إلى الوعي الجماهيري من خلال الدين الإسلامي الذي هو في الوقت نفسه دولة. وبقدر ما يختار السياسي نفسه من مساحة داخل الحقل الإيماني بقدر ما يؤكّد شرعيّته السياسيّة ومشروعيّة سلطانه على المسلمين.
من هنا ندرك ظاهرة «تقدير المثقّف وتدميره»، في تاريخنا الثقافي ـ السياسي، وهي مثنويّة تناولها مروّة بمقالة أدبيّة ـ علميّة عام 1955، ملاحظاً أنَّ «تدمير السلطة السياسيّة للمثقّف هو من طبيعة التقدير ذاته»(36)، أي من طبيعة تقدير السلطة للمثقّف.
لكنّ مروّة يذهب بظاهرة القمع الفكري إلى عمقها المعرفي ماثلاً في قضيّة التوحيد. فهو يفترض «أساساً اجتماعيّاً» لعلاقة الارتباط بين عقيدة الإسلام وشريعته. فقضيّة التوحيد هي «معقد الوصل» بين الإيمان بوحدانيّة الله والنظام الاجتماعي الذي يوحد المتعدّد القبلي. والربط في الإسلام بين المعرفة ومصدرها الإلهي الواحد الذي لا يقبل التعدّد «هو التعبير الإيديولوجي عن مؤسّسة الإطار الاجتماعي التوحيدي. وفي ضوء هذه الرواية يمكن فهم تلك الظاهرة الملحوظة، ظاهرة التحرّج حيال الجدل الفكري»(37) (363). وقد أدّى امتناع الجدل العقلي في عهد الخلفاء الراشدين إلى «انقطاع في مجرى تاريخ تطوّر الفكر العربي» (383).
لكن سطوة المثال التوحيدي على الواقع قابلها سطوة الواقع التعدّدي على المثال، ففي حين عجز النص التراثي عن تثبيت وحدة الجماعة، نجحت الجماعة المخالفة بدءاً بالعهد الأموي في إنتاج أشكال معرفيّة متعدّدة أو مختلفة لهذا النصّ الواحد الثابت. وقد تساءل مروّة:
«كيف نفسّر هذه الأشكال المعرفيّة المتعدّدة التي يتشابه بعضها حتى التماثل، ويتخالف بعضها حتى التناقض في حين أنَّ النص واحد لا يختلف ولا يتغيّر؟» ويبني إجابته على قاعدة الموضوعة الماركسيّة الركنيّة التي ثورت علم الاجتماع: موضوعة انشراط الوعي الاجتماعي بالوجود الاجتماعي وأسبقيّة الوجود على الوعي. وقد أدّى به تطبيق هذا المبدأ إلى نتيجة مفادها: «أنَّ كلاًّ من التشابه والتخالف والتناقض بين أشكال معرفة التراث إنّما هو صادر عن منطلقات اجتماعيّة لا فرديّة، موضوعيّة لاذاتيّة، وأنَّ وراء هذه المنطلقات مواقف إيديولوجيّة طبقيّة تسقط على التراث من خارجه، وأنّ اختلاف الوعي الاجتماعي لدارسي التراث يفسّر اختلاف أوجه معرفته» (16 ـ 17).
وأخيراً، إذا وجد دارس حسين مروّة شيئاً من القسر في اقتياد الواقع للمفهوم النظري، الاقتصادي ـ الطبقي، أو لاحظ صرامة بالغة في التقيّد بالمنهج الاجتماعي، أو وجد هناك ما يشير إلى تحكيم «تخطيطة فكريّة جاهزة»، وهي ظواهر لا يخلو منها بحث موضوعي وشبه تأسيسي لجهة النهج، فإنَّ الطابع الريادي لدراسة مروّة تجعلنا نضع هذه الشوائب في المرتبة الثانية من الأهمِّيَّة وذلك لأسباب ثلاثة:
ـ أوّلاً: إنَّ تصحيح هذه الشوائب، التي يفترض وجودها، أمر سهل نسبيّاً بالمقارنة مع المغامرة الفكريّة التي اجتازها مروّة بنجاح، في حدود نهجه، ونهجه واسع الحدود، وإن كان لا يستقصي كافّة الأبعاد. وقد سمحت لنفسي بالخروج عن الحدود الصارمة للمنهج، الذي اعتبره مروّة ملزماً متتبّعاً العصبيّة كمفهوم أي كـ «تعصّب» وهو بعد غائر في تكوّننا، والذي اعتبر أنّه العمق النفسي ـ لسياسة القطع والقطيعة، تلك الخصوصيّة التي كان اغتيال عقل مروّة وحمدان بعض نتائجها المأساوي.
ـ ثانياً: لأنَّ أيّ مؤرّخ لتطوّر الفكر الاشتراكي في المستقبل لا بدّ وأن ينظر إلى عمل مروّة «ليس بوصفه ثمرة عمل فرد فحسب»، بل بوصفه «أصلح تعبير عن المستوى الذي بلغه التفكير العربي التقدّمي حتى اليوم»(38). وإذا كان لا بدّ من ملاحظة أخيرة حول مسألة التراث، فهي أنَّ مروّة قد أسهم بنهجه الذي يجدل الأصالة والمعاصرة في إخراج المسألة من حدود المطارحة التراثيّة المأزومة إلى رؤية تصلح أن تكون نواة فلسفة نهضويّة شاملة متّسقة النهج، ترقى بنا عن نزعة تجريبيّة وبرغماتيكيّة تنحط بالفكر إلى سطح الواقع، وتستبقي هذا التأرجح القلق بين شرق وغرب، تأرجح نعيش دوّاره قرابة قرن ونصف، كنّا خلالها حبيسي دائرة السؤال: ماذا نأخذ وماذا نترك عن كل من الأب الشرعي وابن الحرام الغربي؟