يجلس المثقف النخبوي في مجلس القبيلة، يداعب وهم الانتماء إلى القوم، أو بالأحرى يحاول إيهام القوم بانتمائه من أجل تحريك جلمود الصخر القبلي الذي "خطّه السيل من علٍ" منذ أزمنة لم يمر عليها الزمن... كأن الزمن العربي زمن ذرّي لا يتواصل، أو رملّي بلا امتداد...
قراءة كتاب دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
في دراسته عن «أزمة المثقّف العربي: التقليديّة والتاريخانيّة» طرح عبد الله العروي السؤال:
ما هي الآليّة التي تمكّن الإيديولوجيا الإسلاميّة من تكرار رجوعها؟ والسؤال هو تنويعة على موضوعة «العنقاء الشرقيّة التي شرحها هيغل». والحقيقة هي أنّ الطبع الوسطي الذي قاد عمليّة التحرّر الوطني لم يحرق من العنقاء الرجوعيّة إلَّا غلافها الخارجي التنظيمي، وهو احتراق كانت العنقاء تفرضه على نفسها حين كانت تنتهج منهج الجمعيّة السرِّيَّة الإرهابيّة. أمّا اليسار الماركسي والتيّار الليبرالي فقد استهدفا في الروح الثقافي كما في الجسد التنظيمي. وقد بدأ سعد زغلول ـ قائد ثورة 1919 الوطنيّة النهج ـ التعاطي مع اليسار وتنظيماته النقابيّة وحلفائه الوطنيين الراديكاليين بأسلوب العاصفة ونهج القطيعة منذ العام 1924، وهو نهج لم ينقطع بعد وإن تقطّع. وإذا تذكّـرنا التنافي القومـوي ـ الشيوعي، والبعثي ـ الناصـري، والبعثي ـ الشيوعي، الذي تعدّى في بغداد شباط 1963 حدّ التعطيل السياسي وبلغ مستوى الإبادة الجسديّة اللاعقلانيّة، ثمّ الخلاف البعثي ـ البعثي، ثمّ خلاف القوميين العرب مع عبد الناصر(23)، ينعرض على شاشة الذاكرة شريط العنف الانفعالي «العصبي» الذي اقتاد الأمّة إلى كارثة الخامس من حزيران، وفي رماد حريق الخامس من حزيران بدأ ريش العنقاء السلفيّة يتبرعم. ثم راحت العنقاء تستكمل هذا الريش في مناخ الانفتاح الساداتي الاستهلاكي السفيه الذي شرَّع أبواب مصر المعزولة عن مصيرها العربي لقوى رأس المال المحلِّي والعالمي وللسياحة الأميركيّة ـ الخليجيّة ـ الإسرائيليّة التي جعلت من مصر مركز ترفيه كما كانت كوبا «باتيستا» بالنسبة لأغنياء أميركا.
وهذا المناخ هو المثالي لانتعاش الفكر ـ السلفي. فهل نقول بعد هذا الوجع كلّه ما قاله العروي في مقدّمته لكتاب الإيديولوجيّة العربيّة المعاصرة:
«إنَّ وجداني لا يكفّ يستشعر الأسى على الأجيال الضائعة والنشاط العقيم والزمن الفارغ»(24)، إنَّ الأمر كذلك. ولكن ما العمل؟ وهل يكون العمل المجدي شيئاً آخر غير التأليف الجدلي بين الفكر القومي من جهة، والماركسي من جهة أخرى، على قاعدة موضوعة مهدي، عامل القائلة: «إنَّ قضيّة الوحدة القوميّة هي قضيّة الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي»، وإنَّ هذه القضيّة موضوعة على رأس جدول الأعمال؟ وهل يكون العمل شيئاً آخر غير إنتاج فلسفة للنهضة تبني الإنسان بمثالات التحرّر من عصبيّات التاريخ العتيقة وبالتالي من نهج القطيعة السياسيّة والقهر الفكري المرتكز على التعصّب كمفهوم في ذاته؟ وهل العمل المجدي يكون إلَّا في صنع عروتنا الوثقى على صورة الجبهة الوطنيّة المتحدة ؟ وهل يكون إلَّا بجعل الحرِّيَّة قيمة ركنيّة، ومساواة مداد العلماء بدماء الشهداء في القيمة المطلقة؟ هل تكون النهضة إلَّا إذا عدنا إلى رحاب الآية الكريمة {من قتل نفساً بغير نفس أو فساداً في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعاً}؟ هل نذكِّر بالآيات الأربع والستّين التي أحصاها محمد عبده في حرِّيَّة العقل والمشيئة والاختيار كما يذكر أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح في العصر الحديث(25).
أليست هذه هي العناوين ـ الأطر الضامنة لحرِّيَّة النقد التي هي «حياة الفكر» كما كان يقول حسن حمدان، ويمارس، بنزعة سقراطيّة مسائلة، مركبه الفكري المتعدّد الأبعاد (فرويدي، وجودي، ماركسي) مؤكّداً على ضرورة تمثّل حزبه الشيوعي والأحزاب الشيوعيّة العربيّة التجربة الديموقراطيّة لأحزاب غرب أوروبا الشيوعيّة ودمجها في حياة الأحزاب الشيوعيّة المحلِّيَّة، والقبول بمبدأ نشر الطروحات الفكريّة المختلفة على صفحات صحافة الحزب، وناقداً لجوانب من فكر حزبه وفكر الأحزاب الشيوعيّة العربيّة.
إنَّ التكوّن الثقافي ـ السياسي للنخبة العسكريّة السياسيّة ذات الأصول الريفيّة ووسطيّتها ونهجها التهادني ونظامها اللاديموقراطي ونهج القطيعة السياسيّة التي حوّلت صراعاتها، التي عدّدنا، قوى الأمّة الحيّة إلى عنقاء هائلة تنشئ الحرب على نفسها، وتجمع حطب احتراقها، ثم تحترق في الخامس من حزيران لتطلق العصبيّة الأخرى الدينيّة إلى حدّها الأقصى، وتفسح لقطيعة أخرى واحتباس آخر، ونحر وانتحار. كل ذلك يضعنا أمام فرضيّة مهدي عامل في نمط الإنتاج الكولونيالي، التي تطمح إلى انتزاع المسألة الوطنيّة وقضيّة الوحدة العربيّة من يد البورجوازيّة المحلِّيَّة «الكولونياليّة التابعة للمركز الرأسمالي المسيطر» ووضعها في يد «الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي». ذلك لأنَّ «التناقض الرئيسي في المجتمع الكولونيالي هو التناقض الوطني، وأنَّ الصراع الوطني هو بالتالي الشكل التاريخي المحدِّد للصراع الطبقي. فالثورتان الوطنيّة التحرّريّة والاشتراكيّة تتداخلان في المجتمعات الكولونياليّة لتشكّلا ثورة واحدة». وهي فرضيّة تكتسب مشروعيّة مطلقة في جزئها الأوّل، ومشروعيّة «نظريّة» في الجزء الطبقي الحصري، والموضوعة، ككل، تبقى مشروطة بإتاحة مناخ التنافس الديموقراطي في الفكر والممارسة.
وقد أعاد ياسين الحافظ صياغة الموضوع بطريقة أخرى: «أين البورجوازيّة العربيّة المفترسة؟ وهل يمكن أن تنشأ في ظلّ الهيمنة الإمبرياليّة الساحقة؟ أين البورجوازيّة التي تلتهم وتطوي تحت أجنحتها البورجوازيّات العربيّة الرثّة، المخصيّة، المتأخّرة المضاربة، التابعة، وتسهم من خلال تحديث الاقتصاد العربي، في شدّ هذا التخلخل في البنية القوميّة العربيّة، في لحم الفواصل والخصوصيّات التي تعطي التجزئة مبرّرها ودعامتها؟»(26).
* * *