يجلس المثقف النخبوي في مجلس القبيلة، يداعب وهم الانتماء إلى القوم، أو بالأحرى يحاول إيهام القوم بانتمائه من أجل تحريك جلمود الصخر القبلي الذي "خطّه السيل من علٍ" منذ أزمنة لم يمر عليها الزمن... كأن الزمن العربي زمن ذرّي لا يتواصل، أو رملّي بلا امتداد...
قراءة كتاب دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دراسات في الفلسفة - الفكر - الدين - السياسة - الثقافة - الأدب
إنّ الطريق إلى الهدف الأخير، هدف إقامة الدولة ـ الأمّة، التي تنبني الذاكرة الجديدة في ظلّها وضمن أطرها المؤسّساتيّة، التعامل الجدلي مع مثالات الشجاعة الجسديّة، ومفهوم الثأر. إنَّ القتال، أي مبدأ القوّة، الذي كان قانون حياة الجاهلي، يصبح جهاداً «من أجل المؤسّسة الواحدة الجامعة، بدلاً من استهلاك هذه القدرات في نزاعات القبائل والعشائر». أمّا مثال الثأر الجاهلي فقد تحوّل «من كونه انتقاماً فرديّاً أُسريّاً أو عشائريّاً إلى كونه عقوبة اجتماعيّة للدفاع عن مصلحة المجتمع» (355 ـ 356). وهذا يطابق في الجوهر موضوعة الارتقاء بالخصوصيّة القبيلة القديمة التي جرّدها هيغل في مفهوم «التعصّب»، ذلك الوقود الناري الدافع أو الإعصار الانفعالي الكاسح الذي وجد تعبيره الخلقي في مفهوم الجهاد «وهو الأساس الأهمّ في الإيمان المحمّدي»(16)، كما يقول هيغل، كونه الممارسة العمليّة لمفاهيم التوحيد الركنيّة على أرض المعركة ـ الفعل، وإلى قدرة الإسلام على تعديل المثالات وتغيير وجهتها وتفجير مخزون عصبيّتها يرتكز الإنجاز التاريخي للإسلام في بعده الثقافي.
تبقى حقيقة ترقى إلى مستوى البديهيّات ويجمع عليها باحثون ومؤرّخون يختلفون منهجيّاً اختلاف عالم الاجتماع الماركسي، مروّة، عن الفيلسوف المثالي هيغل. ويصوغها أنيس صايغ بالقول: «إنَّ موقف الإسلام من العصبيّة يتلخّص في أنَّه أبقاها بعد أن أبدلها من قبليّة عنصريّة إلى دينيّة إيمانيّة»(17).
* * *
أسمح لنفسي هنا بالخروج عن الإطار الملزم عند حسين مروّة لمقاربة مفهوم العصبيّة بالمعنى الهيغلي المشروح سابقاً (معنى التعصّب)، وذلك اعتقاداً منّي، وهذه فرضيّة قطعاً، أنَّ هذا المفهوم المنغرس في الصحراء هو عميق الجذر في اللاوعي قبل الوعي. ولا أزعم أنَّ هذا المفهوم هو «جوهر» ثابت بالمطلق، أي فوق التاريخ، وإنَّما أقول إنَّه مثال ثقافي تكويني فاعل بحكم معطيات تاريخنا ذاته، وأنَّ هذا المثال التكويني لم يتح له في بنيتنا الاجتماعيّة ـ السياسيّة ـ الثقافيّة المعطيات المخالفة التي تحيله إلى عَرَض. والدليل على ذلك هو المشهد العياني المعروض على ساحة عروبتنا منذ العشرينيات (من القرن المنصرم)، والتي غدا لبنان الثمانينيات حالتها القصوى، والتي كان اغتيال مروّة ومهدي عامل جزءاً من انفعاليّتها الجموح، وبعضاً من خصوصيّتها الانحصاريّة التي لم تبلغ مستوى المبدأ الجماعي العامّ الذي هو مبدأ الروح الراشد.
إنَّ روح عصبيّة التجزئة القبليّة لم تصهر وتذاب لتطرق بيد العقل والعلم بحيث تتحوّل في عصرنا إلى طاقة خلق وتشكيل، والتشكيل هو جوهر العنقاء الحديثة. وقد بقيت هذه العصبيّة ظلاًّ للدولة الإسلاميّة في قوّتها، وأصلاً مادِّيّاً وجوديّاً يحيل مثال التوحيد ظلاًّ مثاليّاً حيناً آخر، أو أحياناً أخرى. ومنذ البدء لم تكن مهمّة قطع الجذر العصبي أمراً سهلاً أو ممكناً. فما أن قضى الرسول حتى اضطرّ أبو بكر إلى خوض «حروب الردّة» ضدّ البداوة الراجعة من الإسلام (الذي دخلته ولم يدخلها) إلى ذاكرتها التاريخيّة، وزمنها الصحراوي المكرور. وقد أوضح مروّة جيّداً أنَّ الذاكـرة يكوّنها الوجـود الاجتماعي وليس الكلمة ـ المثال. لكنّه لم يكن في مخطّطه (وجود ـ فكر) الذهاب أبعد. وقد أشار أحمد أمين إلى العمق التكويني لهذا العنصر العصبي حين اعتبر أنَّ عصر عمر بن الخطّاب «كان العصر الذهبي» لأنَّ الخليفة الرّاشد «شغل قبائل العرب عن حروبهم الداخليّة بحروب خارجيّة، لأنَّه، رضي الله عنه، منح فهماً عميقاً ممتازاً لنفسيّة العرب»(18).
ويلاحظ أحمد أمين أنَّ حروب القبائل الجاهليّة «لم تنقطع بعد الإسلام»(19) وأنَّ البنية القبليّة لم تتفكّك وأنَّ القبيلة انخرطت في جيش الفتح كوحدة أو كمتّحد اجتماعي. وإذا جاز لنا أن نبتعد لحظة أخرى عن نصّ مروّة، لنتتبّع هذا الجذر العصبي كما يعرض له أنيس صايغ، نجد أنَّ الأمويين «عادوا بالعصبيّة إلى مستواها العربي القبلي وركّزوا ملكهم على قاعدة العصبيّة العرقيّة التي لو قدّر لها أن تسود لشكّلت خزّان وعي قومي هائل»، كان لا بدّ وأن يشكّل «قوّة مادِّيَّة» لا تغلب في صنع مشروع الأمّة العربيّة الواحدة بمقاييس حضاريّة. ونلاحظ أنَّ مروّة يعتبر «تحوّل معاوية بنظام الخلافة الشوروي إلى ملكيّة وراثيّة كان إيجابيّاً من وجهة تاريخيّة موضوعيّة رغم ما خلّفته الخطوة من مرارة ذاتيّة في نفوس المسلمين، ذلك أنَّ دولة بوزن الدولة الأمويّة العربيّة ما كان يمكن أن تستقرّ وتترسّخ وتؤدّي دورها التاريخي لو لم يدعمها معاوية بهذا التدبير السياسي الجريء». (481) لكن عصبيّة الأمويين ترافقت مع استئثار وتسلّط طبقي أفرخ «ظاهرة الشعوبيّة» التي استندت إلى كونيّة ومبدأ الجماعة المتكافلة المتساوية، وباسم الإسلام انتصر بنو العبّاس، «وفي عصرهم انحسر معنى كلمة عربي لتعني سكّان البادية، وهو المضمون الذي استخدم فيه ابن خلدون معنى العصبيّة»(20). ويمضي الأتراك في الإفادة من ضعف الحسّ القومي ليحكموا العرب من المغرب حتى الخليج مدّة أربعة قرون.
وهكذا «بقي المفهوم القومي، بالمعنى الذي ساد العصر الأموي، هو الأضعف بين العصبيّتين: «القبليّة» و«الإيمانيّة»(21). من هنا قابليّة هذا المفهوم القومي للانتكاس عند أوّل صدمة كبيرة كما نتلمّس في تاريخ مصر المعاصر بشكل خاصّ»(22).
إنَّ كلاًّ من ابن خلدون وهيغل وأحمد أمين وأنيس صايغ مدركون لوجهي الطاقة العصبيّة: التدميري الذي يدمّر العام بخصوصيّته، والبنياني الذي يقيم الدولة والأمّة، أي العام، على قاعدة الخاص العرقي ويسيّجها بالعصبيّة القوميّة، ومروّة يشترط أن يتثقّف هذا الخاصّ العرقي ـ القومي الذي قطعته دولة بني العبّاس كي يلتقي بأرفع ما في ثقافتنا وثقافات العالم من قيم، ويرتقي بالقوميّة من مستوى العرق إلى مستوى الحضارة.
إنَّ خطورة الذهنيّة البدويّة و«التعصّب» كمفهوم مجرّد هو في اختلال ميزان القوى داخل الذات العَصَبيّة. ذلك أنَّ قوّة الطاقة الناريَّة الانفعاليّة الدافعة عند المتعصّب لا تتكافأ مع عدّته العقليّة، أي آلة الفهم والمنطق. ولأنَّه لا يمتلك هذه القوّة في داخله يستعير لنفسه آلة قوّة خارجيّة مادِّيَّة هي السلاح ليكمل بها نقصه، ويغير على مواقع الآخر. وهي سلوكيّة فاشيّة نموذجيّة تحدّد آليّتها الغريزة الآليّة التي تحيل جدل فكر ـ فكر إلى فكر ـ سلاح. وأزعم أنَّ ما جرى ويجري هو في بعده الثقافي ـ النفسي نتيجة تسافل العصبيّة التي اجتهد الإسلام في التسامي بها عن مستوى الخصوصيّة والمصالح الصغيرة، ونجح يوم كان أفق الزمان مفتوحاً أمام حضارة الإسلام بينما هو مفتوح الآن لغزوة رأس المال الغربي، واستطالته الصهيونيّة.