على الرغم من تطور مجالات الثقافة والعلوم السريانية في بداية القرن السابع الميلادي، فإن سيطرة البيزنطيين على المدارس العليا في سوريا وضغوط الفرس وتدخلهم في حياة أهالي العراق وإشعال نار الفتنة بين المناذرة والغساسنة الذين كان من بينهم عدداً كبيراً من المسيحيي
أنت هنا
قراءة كتاب أصول الثقافة السريانية في بلاد ما بين النهرين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أصول الثقافة السريانية في بلاد ما بين النهرين
المبحث الثالث : مملكة ميشان
مملكة ميشان أو ميسان تضم منطقة واسعة، ابتداءً من المحمرة الحالية وحتى فرات – ميشان (البصرة) وكذلك جنوب العراق المطل على الخليج العربي بضمنها جزيرة فيلكا.
نشأت ميشان من أقوام وقبائل عدة معظمها آرامية التي كانت موجودة في هذه المنطقة منذ بداية العصور البابلية في مملكة القطر النجري. وكان قيام مملكة ميشان ومملكة حاطرا ومملكة حدياب وكذلك مملكة سنجار كرد فعل حضاري في سكان العراق القدماء بعد سقوط آخر دولة رافدينية بابلية – كلدية عام 539 ق.م على يد الفرس وما تبعته من غزوات اغريقية ورومانية وغيرها حيث اعتبرت هذه الممالك امتداداً لقوى وقدرات شعب الرافدين المتحضر الذي كانت بلاده مركزاً من مراكز الثقافة والتجارة والإدارة في الهلال الخصيب.
أما كون معظم سكان ميشان من الآراميين فهذا ما يؤكده الباحث شيلدن نودلمان والعلامة طه باقر حيث يقول بالحرف الواحد: (إن جُلًّ سكان ميشان من الآراميين)[*].
بعد انهيار الحكم الإخميني الفارسي في العام 331 ق.م. على يد الإسكندر الكبير، تبعه الاحتلال اليوناني الذي على استولى الشرق الأدنى ووصل إلى أطراف الهند، وبعد أن قضى الإسكندر الكبير وقتاً في فارس قرب عاصمتها برسيبوليس، وبعد أن أحرق ودمر ما استطاع من معالمها انتقاماً لما فعله الفرس في بلاد اليونان، وبعد ان تزوج من أميرة فارسية وسعى إلى تزويج بقية الأميرات ونساء البلاط من قادته انسجاماً مع سياسته الداعية إلى إيجاد علاقة حسنة مع الشعوب المغلوبة، عاد إلى بابل متخذاً طريقاً جنوبياً حتى وصل إلى أرض (المحمرة) التي تطل على نهر كارون، فقرر إنشاء مدينة هناك دعاها (خاراسين Charassene) ودعا جنوده المتعبين أن يستقروا فيها؛ بينما اسماها قادة الإسكندر (الإسكندرية) لكن هذه التسمية لم يؤبه لها، أما السكان الذين يعيشون قربها والذين في معظمهم كانوا آراميين فقد اسموها (كرخا) بمعنى المستوطن، ولذلك جاء اسم كرخا في مواقع عديدة في العراق من بينها (كرخا بيث سلوخ) أي كركوك، وكرخا ليدان في الأهواز وغيرهما.
وأمر الإسكندر، الذي كان يفكر في خطته للاستيلاء على بلاد العرب، ببناء أسطول جديد يتألف من (1000) سفينة، كما أمر بإنشاء ميناء على الكارون أسماها (بيلا Pella) وكلف أحد قادته من أمراء البحر ويدعى (سيكالس الكلازيو ميناوي)، وطلب منه الذهاب حال وصوله إلى بابل، إلى بلاد فينيقية (لبنان) واعطاه (500) طالين من الذهب لشراء ما يحتاج إليه من خشب ولوازم ومواد، ولاستئجار بحارة لبناء أسطول كبير لا يقل عن (1000) سفينة من مختلف الأنواع، ثم ركب سفينة وسار من نهر كارون حتى التقائه بدجلة، وقرر هناك أن يقام ميناء آخر مناسب لأسطوله المقبل وسماها (أبولوكوس Apollochus) الذي تحول اسمه في ما بعد إلى (الابلة)، ثم نزل إلى فم الخليج واستراح في جزيرة (ايكاروس Ikarus) والتي سميت في العصر الحديثة (فيلكة)، وقرر بناء ميناء هناك وترك بعض جنوده وقادته لهذا الغرض، ثم انتقل إلى نهر الفرات وعاد شمالاً متوجهاً إلى بابل على متن سفينة من السفن التي كانت ترافقه في حملته على إيران وما بعدها.
نمت مدينة خاراكس وفي بداية القرن الثالث قبل الميلاد لكنها سرعان ما خربت المدينة بسبب فيضان الكارون، وتكرر ذلك عدة مرات مما جعل الملك السلوقي (انطيوخس الرابع ابيفانس) يعيد تعميرها وأسماها أنطاكيا أيضاً على اسمه، وعين الملك (أنطيوخس الثالث) وذلك سنة 221 ق.م حاكماً على خاراكس المدعو (بيتكاريس) ثم عين بعده أحد قادته حاكماً على المدينة يدعى (تيخون) وكان غرض الإمبراطور انطيوخس أن تسيطر هذه المدينة على تجارة الهند وبلاد العرب ومصر.
وفي عام 165 ق.م. أعاد الإمبراطور انطيوخس الرابع تعمير مدينة خاراكس، وعيّن أحد شيوخ العراق في منطقة ميشان التي تشمل القبائل الآرامية والعربية والفارسية، وجعله أميراً على مملكة ميشان.
تمتد مملكة ميشان من مدينة خاراكس وحتى جزيرة ايكاروس وعبر نهري دجلة والفرات اللذين كانا يصبان كل منهما على حدة في الخليج العربي حتى ذلك الحين، وجعل هذا الشيخ ويدعى (سباسينس) أميراً على جميع تلك المنطقة التي تشمل أيضاً رقعة فرات – ميشان، وجدير بالذكر أن كلمة ميشان تعني بالآرامية (المدينة المنورة).
اثبت هذا الأمير بأنه أهل لثقة السلوقيين، إذ ظل متعلقاً بهم برغم ما حصل لدولتهم من انتكاسات على أيدي الفرثيين، لكن تعاظم الخطر الفرثي أقنعه أخيراً بالاستقلال في إمارته عن أنطاكيا والسلوقيين بخاصة عندما اندحر الملك السلوقي.
وكانت نقود مملكة ميشان تُضرب في مدينة خاراكس، أي كرخا، وهي تحمل صورة الأمير سباسينس وصورة أحد الملوك السلوقيين، وعند احتلال الفرثيين العراق وجدن صورة الأمير على عملته المعدنية وفي وجهها الأخر صورة ملك فرثي لعله متريداس الثاني (124 – 88 ق.م) مما يدل على تبعيته للفرثيين.
لكن عندما أدرك هذا الأمير ضعف المملكة الفرثية، أعلن استقلاله وسمى نفسه ملكاً (Apologus) على مملكة ميشان، وألف هذا الملك جيشاً لتحرير بلاد بابل من قبضة الفرثيين، ويقول العلامة سامي سعيد الأحمد أن الملك سباسينس نجح لفترة قصيرة في طرد الفرثيين من بلاد بابل، بسبب امتلاكه شعبية في تلك البلاد، وكثرة مؤيديه بدليل الرقيم المدون باللغة الأكدية والذي يعود إلى سنة 127 ق.م، الذي أفاد بأنه قد أصبح ملكاً على بابل، ويعتقد أن هذا الملك من أصل بابلي – كلداني، وإلا كيف حاز على هذه الشعبية بالإضافة إلى أنه كان يقدم الأضاحي في المناسبات الدينية ببابل إلى الإله مردوخ.
كان الملك سباسينس معجباً بالحضاة اليونانية الشرقية (الهلنستية) فقد اتبع التقويم اليوناني الذي يبدأ من سنة 311ق.م، واتبع الملك سياسة دولية مع سكان بلاد بابل وكان لديه مستشار بابلي يدعى (التي – مردوخ- بلاطو) وكان من المقربين إليه.
لم تدم سيطرته على بابل إلا بضع سنوات، ولدينا نقود معدنية تعود إلى سنة 126-127 ق.م باسمه، وتعكس نقوده حبه للهلنستية، وبدأت حملة فرثية جديدة على العراق من قبل الملك الفرثي (متريداس الثاني) انتهت بعد ست سنوات بانكسار جيش الملك سباسينس عام (120 ق.م) ولذلك انسحب إلى مملكته الصغيرة ميشان، ويبدو أنه خضع بعد ذلك للفرثيين، لكن علاقاته التجارية استمرت مع جيرانه اليونانيين وكذلك مه مدن سوريا الصحراوية التي كانت تستورد عن طريق ممكلته الأقمشة والطيب وبضائع مستوردة من الهند وغيرها وتصدرها إلى الجزيرة العربية.