أنت هنا

قراءة كتاب ميلاد الذكاء عند الطفل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ميلاد الذكاء عند الطفل

ميلاد الذكاء عند الطفل

هذا الكتاب خصص لدراسة ميلاد الذكاء عند الطفل لذلك نجده يحتوى على مختلف مظاهر الذكاء الحسى الحركى كما يحتوى على أفكار رئيسية لاسيما ما يتعلق منها بتكوين الصور الإجمالية الحسية الحركية وعملية التمثيل العقلى والتى هى من أساسيات الذكاء الفكرى للطفل حيث هناك ما

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 7

3. التراكيب الوراثية ونظريات التكيف

لقد رأينا أن هناك نوعين من الحقائق الوراثية الخاصة بنمو العقل البشرى وهما: العوامل الوظيفية الثابتة التى ترتبط بالوراثة العامة للمادة الحية، وبعض الأعضاء أو الخصائص التركيبية التى ترتبط بالوراثة الخاصة للإنسان والتى تستخدم كأدوات أولية للتكيف العقلى. وإذن يجدر بنا الآن أن نفحص كيف تمهد التراكيب الوراثية إلى نشأة هذا التكيف العقلى، ونرى إلى أى حد تستطيع النظريات البيولوجية للتكيف أن توضح نظرية الذكاء. إن الأفعال المنعكسة والأشكال المادية للأعضاء التى ترتبط بها هذه الأعضاء تعتبر نوعا من المعرفة الفطرية بالبيئة الخارجية. ومن البديهى أنها معرفة غير شعورية ومادية، غير أنها ضرورية لنمو المعرفة العقلية فيما بعد. فكيف يمكن أن يكون مثل هذا التكيف للتراكيب الوراثية ممكناً؟

ليس من المستطاع حل هذه المشكلة البيولوجية فى الوقت الحاضر. ولكن يبدو من المفيد أن نعرض عرضا سريعا للمناقشات التى أثارتها، والتى لا تزال تثيرها هذه المشكلة؛ لأن مختلف الحلول التى تعرض علينا تسير فى خطوط متوازية مع نظريات الذكاء نفسه. وهكذا تستطيع تلك الحلول أن توضح لنا هذه النظريات باستخلاص الطابع العام الذى تدور حوله جميعها. وفى الواقع توجد خمس وجهات نظر أساسية بصدد التكيف، وتقابل كل منها أحد التفسيرات التى يفسر بها الذكاء من حيث هو ذكاء. وليس معنى ذلك بطبيعة الأمر أن الباحث متى اختار إحدى هذه النظريات الخمس التى يستطيع المرء التفرقة بين خواصها فى علم الحياة وجب عليه أن يرتضى وجهة نظر مماثلة فى علم النفس. ولكن مهما كانت ضروب التأليف الممكنة فيما يتعلق بآراء المؤلفين أنفسهم فإنه توجد "عمليات مشتركة" بين التفسيرات البيولوجية والتفسيرات السيكولوجية لكل من التكيف العام والتكيف العقلى.

وأول هذه الحلول هو حل "لامارك" القائل بأن كل كائن عضوى يتشكل خارجيا بالبيئة، وأن هذه الأخيرة تؤدى بضروب من القهر إلى نشأة العادات أو ضروب من الملاءمة الفردية التى تعمل على تشكيل الأعضاء متى ثبتت عن طريق الوراثة. ولهذا الفرض البيولوجي القائل بتغليب العادة ما يقابله فى علم النفس، وهو مذهب الترابط الذى يقول بأن المعرفة تترتب هى الاخرى على العادات المكتسبة، دون أن تحتاج هذه العادات إلى وجود أى نشاط داخلى يمكن أن ينشأ عنه الذكاء من حيث هو ذكاء.

وعلى عكس ذلك المذهب الحيوى الذى يفسر التكيف بأن ينسب إلى الكائن الحى قدرة خاصة على تكوين الأعضاء النافعة. كذلك يفسر المذهب العقلى الذكاء بالذكاء نفسه، عندما يعزو إليه قدرة فطرية على المعرفة، وعندما يعتبر أن نشاطه ظاهرة أولية ينجم عنها كل شئ فى المجال النفسى.

أما مذهب الفطرة الكامنة فيرى أن التراكيب ترجع إلى أصل داخلى بحيث؛ إذ أن التغيرات الممكنة تصبح تغيرات فعلية بمجرد احتكاك الكائن بالبيئة بحيث لا تؤدى هذه إلا وظيفة "العنصر الكاشف". وعلى هذا النحو نرى أن مختلف المذاهب المنطقية والمذاهب النفسية التى يمكن أن ندرجها تحت اسم المذاهب السابقة للتجربة تنظر إلى التراكيب العقلية كما لو كانت سابقة للتجربة؛ لأن هذه الأخيرة تقتصر على أن تهيئ لها فرصة الظهور دون أن تفسرها فى شئ. وسواء أتصورنا هذه التراكيب فطرية من الناحية النفسية، كما يقول أصحاب المذهب الفطرى التقليدى، أم تصورنا فقط أنها أزلية من الوجهة المنطقية، أى قائمة فى عالم عقلى يسمو إليه العقل، فلا أهمية لهذه التفاصيل؛ لأن هذه التراكيب توجد كامنة لدى الشخص، وليس هذا الأخير هو الذى يكونها عن طريق التجارب. وقد وقعت ضروب من التطرف فى كل من علم الحياة وفى المنطق سواء بسواء. كذلك وضع بعضهم الفرض القائل بأن جميع الخواص الجديدة التى ظهرت فى أثناء التطورات بما فى ذلك الخواص الضارة بالنوع- قد وجدت جرثومها منذ النشأة الأولى؛ كذلك انتهى "رسل" إلى افتراض أن جميع المعانى الأولى التى تنبت فى مخنا، بما فى ذلك المعانى الفاسدة، كانت موجودة فيه منذ الأزل أيضاً.

وكنا نستطيع أن نفرد مكاناً للمذهب البيولوجى المعروف بمذهب "الظهور" الذى يقول بأن التراكيب (العقلية) تظهر على هيئة ضروب تامة من التراكيب التى يقوم كل منها بذاته، ويتلو بعضها بعضا بناء على نوع من الخلق المستمر؛ وأن نوضح الصلة بين هذا المذهب وبين نظرية "الصور" أو "الجشتالت" فى علم النفس. ولكن ليس الأمر فى الحقيقة إلا بصدد فكرة منطقية ديناميكية فى اتجاهها. فإذا استخدمنا فى التفسيرات الخاصة وجدنا انها لا تفترق على الفكرة السابقة للتجربة بمعناها الصحيح، وذلك بالقدر الذى لا تتجه فيه صراحة نحو الحل الخامس.

وأما وجهة النظر الرابعة التى سنحتفظ لها باسم مذهب "التغير" فهى وجهة نظر علماء الحياة الذين، وإن لم يكونوا من القائلين بالفطرة الكامنة، فإنهم يرون أيضاً أن التراكيب تظهر بطريقة داخلية بحتة. غير أنهم ينظرون إلى هذه التراكيب، فى هذه الحال، كما لو كانت تخرج إلى حيز الوجود فجأة وتبعاً للصدفة التى تفضى إليها التحولات الداخلية، وكما لو كانت تتكيف بالبيئة بناء على اختيار (طبيعي) تتبين صلاحيته بعد تحققه بالفعل. ولكن إذا نقلنا هذه الطريقة فى التفسير إلى مجال ضروب التكيف غير الوراثية وجدناها تشبه طريقة "المحاولات والأخطاء" فى مذهب الذرائع أو فى مذهب "العرف". فبناء على هذه الطريقة يمكن تفسير المطابقة بين ضروب السلوك باختيار بعض التصرفات التى تظهر مصادفة بالنسبة إلى البيئة الخارجية. ففى رأى مذهب "العرف" مثلا نرى أن المكان ذى الأبعاد الثلاثة كما كان يتصوره إقليدس - والذى يبدو لنا أقرب إلى الحقيقة مما سواه بسبب تركيب أعضائنا الإدراكية - إنما كان أكثر "ملاءمة" من غيره لمجرد هذا السبب، وهو أنه يسمح لنا بأفضل مطابقة بين أعضاء الإدراك والأشياء فى العالم الخارجي.

وأخيراً يوجد حل خامس يقول بأن الكائن العضوى والبيئة يكونان كلا واحداً غير قابل للانفصال. ومعنى ذلك أنه يجب أن نفسح إلى جانب التغيرات العرضية مكاناً للتغيرات الخاصة بالتكيف، والتى تتضمن فى الوقت نفسه نشأة تركيب خاص بالكائن العضوى ونوعا من تأثير البيئة؛ وذلك لأنه لا يمكن فصل أحد هذين الأمرين عن الآخر. ومعنى ذلك من وجهة نظر المعرفة أن نشاط الذات المدركة يتناسب مع تكوين الشئ، كما أن هذا التكوين يتضمن ذلك النشاط. وهذا تأكيد لنوع من العلاقة الحتمية المتبادلة بين التجربة والعقل. وهكذا تمتد فكرة النسبية فى علم الحياة حتى تصبح مذهباً يقوم على فكرة التبعية المتبادلة بين الذات المدركة والشئ المدرك، أى بين تمثيل الذات المدركة للشئ واستعدادها لإدراكه على نحو ملائم.

فإذا نحن انتهينا من إجمال أوجه الشبه بين نظريات التكيف ونظريات الذكاء على هذا النحو فمن الطبيعى أن نترك لدراسة نمو الذكاء مهمة اختيار الفرض المناسب من بين مختلف هذه الفروض الممكنة. ومع ذلك فقد أردنا أن نمهد لاختيار هذا الفرض، وأن نتوسع فى فكرتنا عن التكيف نظراً لوجود صلة تدريجية بين العمليات البيولوجية والتشابه بين الحلول التى حاول العلماء اقتراحها فى مختلف المحاولات التى عرضت فيها هذه المشكلة، ولذلك قد اخترنا مجال الأشكال الوراثية لدى الكائن العضوى لكى نحلل حالة خاصة "بتطور الأشكال" تسمح لنا بتوضيح مختلف التفسيرات التى ذكرناها بالترتيب منذ قليل.

الصفحات