أنت هنا

قراءة كتاب ميلاد الذكاء عند الطفل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ميلاد الذكاء عند الطفل

ميلاد الذكاء عند الطفل

هذا الكتاب خصص لدراسة ميلاد الذكاء عند الطفل لذلك نجده يحتوى على مختلف مظاهر الذكاء الحسى الحركى كما يحتوى على أفكار رئيسية لاسيما ما يتعلق منها بتكوين الصور الإجمالية الحسية الحركية وعملية التمثيل العقلى والتى هى من أساسيات الذكاء الفكرى للطفل حيث هناك ما

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 8

يكاد يوجد فى جميع المستنقعات الأوروبية والأسيوية نوع من القواقع المائية اسمه "ليمنيا ستانياليس Limnaea Stagnalis وتتميز باستطالة شكلها. غير أنه يوجد فى البحيرات الكبرى بسوييسرا وبلاد السويد وغيرها نوع من هذه القواقع نفسها يبدو بشكل مختلف إذ يمتاز بالتقلص والتكور، ومن اليسير تفسير تكوين هذا الشكل بالملاءمة بين حركة الحيوان والأمواج واضطراب الماء طيلة المدة التى تنمو فيها القواقع. ولما تحققنا من صدق هذا التفسير عن طريق التجارب استطعنا، بفضل تربية عدد كبير من هذه القواقع فى أحواض مائية، أن نقرر أن هذا النوع المتقلص الذى يمكننا تتبع تاريخه الجيولوجى منذ العصر الحجرى الجديد حتى أيامنا هذه قد أصبح وراثياً مستقراً تمام الاستقرار فى أكثر الأماكن تعرضاً للرياح ببحيرتي نيوشاتل وجنيف (تخضع هذه النماذج النوعية على وجه الخصوص لقوانين الانفصال التى قررها "مندل").

وإذن يبدو فى الوهلة الأولى أنه يجب الأخذ بحل "لامارك" فى مثل هذه الحالة: وهو أن عادات التقلص التى يكتسبها الحيوان بتأثير الأمواج قد تنتهى إلى الانتقال عن طريق الوراثة على هيئة مجموعة من الأفعال المنعكسة المورفولوجية وبذلك ينشأ نوع جديد (من القواقع). ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن النموذج العرضى يتحول على نحو غير محسوس إلى نموذج نوعى بالتأثير المستمر للبيئة. لكن لسوء الحظ لم تكشف لنا التجربة فى المعامل فى حالة "الليمنيا" عن هذا النوع من القواقع، وفى غيرها من الحالات عن وجود أثر لانتقال الخصائص المكتسبة (تنحصر هذه التجارب فى تربية هذه القواقع فى ماء يحركه جهاز صناعى لإحداث التقلص بطريقة تجريبية). ومن جانب آخر لم نعثر فى البحيرات متوسطة الاتساع على جميع أنواع القواقع المتقلصة. فإذا كان للبيئة تأثير فى تكوين التقلص الوراثى فإن هذا التأثير يتم فى حدود معينة (كالحدة والزمن وهلم جرا)، وبدلا من أن يخضع الجسم العضوى لهذا التاثير خضوعاً سلبياً فإنه يقوم بردود أفعال إيجابية، أي يتكيف على نحو يتجاوز مجرد العادات التى تفرض عليه.

أما عن الحل الثانى فإن المذهب الحيوى يعجز عن تفسير تفاصيل أى ضرب من ضروب التكيف؛ إذ لماذا لا يتدخل الذكاء اللاشعورى للنوع- على فرض وجوده- فى كل حالة يمكن أن يكون مفيداً فيها؟ ولماذا استغرق التقلص قروناً عديدة منذ استيطان البحيرات بعد عصر الجليد؟ ولماذا لا يوجد أيضاً فى جميع مياه البحيرات؟

ويمكن توجيه هذه الاعتراضات نفسها إلى الفرض الذى يقترحه مذهب الفطرة الكامنة لحل هذه المشكلة.

وعلى العكس من ذلك الحل الرابع؛ فإنه فى مركز يبدو فى مظهره أنه لا سبيل إلى الطعن فيه. وحقيقة يرى مذهب "التغير" أن التراكيب المتقلصة الوراثية ربما ترجع إلى تغيرات داخلية عرضية (أى لا صلة لها بالبيئة ولا بضروب التكيف الفردية الاتفاقية)، ثم يتبين فيما بعد أن هذه الأشكال تتلاءم أكثر من غيرها مع المناطق المضطربة فى البحيرات، وأنها تتكاثر فى نفس المناطق التى لا تناسب القواقع المستطيلة، أو يرجع ذلك إلى قانون الاختيار الطبيعى. وإذن تكون الصدفة والاختيار الطبيعى، الذى تتأكد صلاحيته بعد حدوثه بالفعل، هما العنصران اللذان قد يفسران التكيف دون حاجة إلى التأثير الغامض الذى تباشره البيئة على انتقال الخصائص وراثياً؛ فى حين أن تكيف التغيرات الفردية غير الوراثية تظل مرتبطة بتاثير البيئة المحيطة بالكائن. غير أننا نستطيع فى مثال القواقع بالذات أن نوجه اعتراضين خطيرين إلى مثل هذا التفسير. فأولا إذا كانت الأشكال المستطيلة من هذا النوع لا تستطيع البقاء على صورتها هذه فى الأماكن التى يشتد فيها اضطراب ماء البحيرات فإن النماذج المتقلصة الوراثية تستطيع أن تعيش، على عكس ذلك، فى جميع البيئات التى يوجد فيها هذا النوع من القواقع. وقد سبق أن عودنا بعضها على الحياة منذ بضع سنين فى بحيرة راكدة من بحيرات الهضبة السويسرية. وإذن فلو كانت التغيرات وليدة الصدفة لوجب أن توجد هذه النماذج النوعية فى كل مكان دون تفرقة. غير أنها لم تظهر فى الحقيقة إلا في بيئات البحيرات، وعلى وجه الخصوص فى البحيرات شديدة التعرض للريح، أى حيث يبدو من البديهى جداً أن تكيف القواقع تجاه الأمواج تكيف فردى أو عرضى! وثانيا يبدو أن الاختيار الطبيعى الذى تبدو صلاحيته بعد حدوثه بالفعل أمر عديم الفائدة أو مستحيل فى هذا النوع من القواقع؛ لأن لأشكال المستطيلة تستطيع هى الأخرى أن نؤدى إلى نماذج متقلصة ليست وراثية أو لم تصبح بعد كذلك. وحينئذ لا نستطيع الحديث عن تغيرات جزافية ولا عن اختيار طبيعى تبدو صلاحيته بعد حدوثه لكى نفسر مثل هذا التكيف.

ومن ثم لم يبق أمامنا سوى حل خامس وهو الحل الأخير، وذلك أن نسلم بإمكان التكيفات الوراثية التى تعتمد فى آن واحد على تأثير البيئة وعلى رد فعل يقوم به الكائن العضوى ويختلف عن مجرد تثبيت العادات. وهكذا نجد فى مجال الأشكال المختلفة للأفعال المنعكسة أن هناك ضرباً من التأثير المتبادل بين البيئة والكائن العضوى، بحيث أن هذا الكائن لا يخضع خضوعاً سلبياً لضغط البيئة، ولا يكتفى عند احتكاكه بها بإظهار تراكيب كانت كامنة فيه؛ بل يقوم بأفعال منعكسة إيجابية تختلف أشكالها (ويكون ذلك فى مثال القواقع عن طريق نمو الأفعال المنعكسة الخاصة بالتصاق الأقدام والتقلص) وبتشكيل الأعضاء على نحو مناسب. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن التثبيت الوراثى للخصائص العرضية أو التكيفات الفردية لا ترجع إلى مجرد تكرار العادات التى أدت إلى نشأتها؛ بل إلى عملية حركية خاصة نسج وحدها تؤدى بطريق التاثير الرجعى أو السابق لأوانه إلى نفس النتيجة فى مجال الأشكال المختلفة للأفعال المنعكسة.

أما فيما يمس مشكلة الذكاء فإن الحقائق التى يمكن استنباطها من هذا المثال هى الآتية: يوجد الذكاء منذ أصوله الأولى مرتبطاً تمام الارتباط بمجموعة العلاقات التى توجد بين الكائن العضوى والبيئة، وذلك بفضل التكيفات الوراثية لهذا الكائن. وحينئذ لا يبدو الذكاء كما لو كان قدرة على التفكير مستقلة عن الموقف الخاص الذى يشغله الكائن العضوى فى الكون، وإنما يرتبط منذ أول الأمر بتركيبات بيولوجية سابقة له فى نشأتها. فليس الذكاء بحال ما قوة مطلقة مستقلة، ولكنه علاقة من بين عدة علاقات أخرى، أى علاقة بين الكائن والأشياء. فإذا كان الذكاء امتداداً لتكيف عضوى سابق عليه فمما لا شك فيه أن التقدم العقلى ينحصر فى ازدياد الشعور بالنشاط العضوى الملازم للحياة نفسها، وأن المراحل الأولية للنمو النفسى ليست إلا ضروباً سطحية جداً من الشعور بهذا العمل العضوى. ومن باب أولى نجد أن التراكيب لمختلف الأشكال المنعكسة التى توجد فى الجسم الحى والتمثيل البيولوجى الذى يعد نقطة بدء للأشكال الأولية لعملية التمثيل النفسية لا يمكن أن يكونا شيئاً آخر سوى مظهر خارجى ومادى جداً للتكيف الذى تعبر الأشكال السامية للنشاط العقلى أفضل تعبير ممكن عن طبيعته العميقة. وإذن يمكننا أن نتصور أن النشاط العقلى- الذى ينشأ ابتداء من العلاقة المتبادلة بين الجسم والبيئة، أو ابتداء من عدم التمييز بين الذات المدركة والشئ المدرك- يتقدم فى نفس الوقت للوقوف على حقيقة الأشياء وليفكر فى ذاته، وذلك لوجود صلة متبادلة بين هاتين العمليتين المتضادتين فى الاتجاه. وبناء على هذه الوجهة من النظر يبدو التركيب الفسيولوجي التشريحى فى نظر الشعور بالتدريج كأنه خارج عنه، كما أن النشاط العقلى يبدو، على هذا الاعتبار نفسه، كما لو كان جوهر وجودنا كذوات مدركة. وهذا هو مصدر الانقلاب الذى يحدث فى وجهات النظر العامة كلما زاد النمو العقلى، والذى يفسر لنا السبب فى أن العقل، وإن كان امتدادا للعمليات البيولوجية المفرطة فى المركزية، فإنه ينتهى بأن يتجاوز نطاقها من الناحيتين الخارجية والداخلية التى تكمل أحداهما الاخرى.

الصفحات