أنت هنا

قراءة كتاب من كل بستان زهرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
من كل بستان زهرة

من كل بستان زهرة

اللهم عليك توكلت وبك استعنت وبفضلك وإحسانك اعتمدت، اللهم أحمدك حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه لأنك منحتني العافية والإرادة في أعداد هذا الكتاب ونشر هذا الجهد المتواضع لأضعه بين يدي قارئي العزيز لينهل منه كل ما هو عذب وممتع ولتطيب نفسه ويسمو خلقه ويقرب من ال

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

هجرة الحبيب

18- في يوم من الأيام القائظة، في وقت الظهيرة، وشدة الحرارة، والناس يقبعون في بيوتهم لا يستطيع أحد أن يضع قدمه أو يطل برأسه إلى الخارج نظراً لسياط الميزان الحامية التي كانت الشمس تجلد بها الأرض، في هذه اللحظات يخرح رجل واحد في حذر شديد، وترقب دائم، يمضي تكاد فروة وجهه أن تحترق من فوح الأرض وحرارة الجو، عجب أمر هذا المتحدي لسلطان الطقس وقبضة الحر، من هو يا ترى؟ إنه محمد بن عبد الله ﷺ إلى أين يذهب؟ إلى صديق العمر، ورفيق الدرب، وأنيس الطريق، إلى أبي بكر الصديق. تقول عائشة رضي الله عنها: كان لا يخطئ رسول الله ﷺ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشياً، حتى إذا كان اليوم الذي اذن الله فيه لرسوله ﷺ في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله ﷺ بالهاجرة في ساعة كان لايأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله ﷺ في هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله ﷺ وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختي أسماء، فقال رسول الله ﷺ: اخرج عني من عندك قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي؟ قال: إن الله أذن لي بالخروج والهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة. قالت عائشة: فوالله ماشعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي!!!

خرج الصاحبان، ومضى الصديقان، وأنطلق المهاجران، فإذا بالدهر يسجل، والزمان يكتب، والأرض تسطر والسماء تحتفي، إنها انطلاقة الإيمان، وانبعاثة الإسلام، إنها رحلة الحق، تحركت عجلتها من مكة بعد أن كانت مجبلة موثقة، فانطلقت في طريقها الوضاء لتجوب الدنيا، وتطوف الأرض، وتطوي الفيافي، وتجتاز الوديان، وهي مع ذلك تنثر عطرها، وتبث عبيرها، وتفوح بشذاها، فإذا بغيثها الهنيئ يروي العطش ويسقى الظمأ، وإذا بوابلها الصيب وودقها الطيب يحي الأرض، وينبت الزرع، وينعش الأرواح أن هذه الهجرة هي بداية هجرة الاجساد، إما الأرواح فقد هاجرت من قبل، والقلوب سافرت منذ زمن، أنطلق المهاجران ليبدأ التاريخ يروي أجمل قصة تزينت بها هامته، ويحى أعظم قصة تضوعت بها ذاكرته. يا الله ما كان اصعبه من فراق على قلب محمد ﷺ، يخرج من مكة، يهاجر من البيت الحرام، يغيب عن زمزم، يتولى عن مراتع الصبا، وملاعب الطفولة، وذكريات الماضي ، يذهب عن الأهل والابناء والاحبة، يسافر بعيداً عن غار حراء الذي كانت فيه إشراقة حياته، يودع الهضاب التي زاره فيها جبريل، وصافحه في الوحي، وضمته إليه السماء، يرحل عن منزل خديجة حبيبة القلب، ونصيرة الدرب، ورفيقة العمر؟ لا شك أن ذلك أمر مرهق، وحدث موجع، لم تطق الروح النبوية أن تخفى أثره، وتتنكر لوقعه، فيلتفت ﷺ إلى مكة التفاته حزن وأسى وحسرة ووداع، فيهتف في سمعها قائلاً: (ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت).

ومضى الصاحبان متجهين إلى غار ثور ليخيبا ظن المشركين، ويموها عليهم بانطلاقهما جنوباً، ثم يعودان بعد ذلك شمالاً انطلاقاً إلى المدينة.

ونحن في هذه العجالة لا نريد أن نسرد أحداث الهجرة ولا نلم بوقائعها، ولانعدد الدروس والعبر المستفادة منها، فذلك ميدان واسع، ومشوار طويل لا تكفي فيه ورقات، ولا تأتي عليه في ساعات، ولكننا سنقف وقوفاً عابراً مع بعض روائع الحب والوفاء، والتضحية والفداء في هذه المسيرة المباركة، والهجرة الموفقة.

مضى الصديقان، فإذا بأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه يتدفق حيوية يمتلئ حماساً ويتوقد فطنة ولهفاً وحرصاً وعناية وترقباً، يمضي والقلق مهيمن عليه، فتارة يمشي أمام النبي ﷺ وكأنما يتمنى لو فرش راحتيه ليمشي عليهما محمد ﷺ، ولسان حاله يقول صدري ونحري دون صدرك ونحرك يانبي الله، وتاره يلتفت ثم يعود ليمشي خلفه ورقبته تكاد تنكسر من كثرة تلفته، فيمضي ولسان حاله يقول ظهري وعمري فداء لك يا رسول الله، ويعجب النبي ﷺ من حال أبي بكر ومشيه تارة أمامه وتارة خلفه، فيسأله عن ذلك: (يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟) فيقول: يا رسول الله (اذكر الطلب والعدو من ورائنا فأمشي خلفك، ثم اذكر الرصد والخطر أمامنا فأمشي بين يديك).

فلما وصلا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، فدخل أبو بكر فأستبرا الغار، وأخذ يسد كل حجر أو فوهه فيه خوفاً من حية أو عقرب أو شيء يؤذي النبي ﷺ، ثم قال: أنزل يا رسول الله، فرأى أبو بكر حجراً صغيراً خاف منه، فوضع رجله على فوهته ثم جلسا فاضطجع النبي ﷺ من كثرة التعب والإرهاق، ونام متوسداً رجل أبي بكر رضي الله عنه، فإذا بعقرب تلسع أبا بكر في رجله فلا يهتز حتى لا يوقظ رسول الله ﷺ، ثم يشتد الألم وهو صابر حتى سرى السم في جسده، فعظم الكرب، واشتد الوجع، وبلغ من شدة الألم أن انتزع من عينيه دموعاً غزيرة حارة وقع بعضها على خد محمد ﷺ، فانتشلته من نومه انتشالاً، وجعل يسأل حائراً: (ماذا بك يا أبا بكر؟) قال: (لدغني عقرب) وكانت فرحة التضحية قد ملأت قلب أبي بكر حرارة وحماسة فتغلب على شر السم الفتاك والذي كان قد بدأ يسري في دمائه، وتفل الرسول ﷺ على الجرح المسموم ومسحه قليلاً، فزال الألم والتورم في الحال.

الصفحات