كتاب " الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس " ، تأليف د. محمد العمارتي ، والذي صدر عن دار الجنان عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس
تمهيد
1- العتبات الأولى في الحياة
تبرز أهمية التنشئة الأولى في حياة الطفل إميليو في كونها ستمارس تأثيرها الإيجابي على تكوينه النفسي والأخلاقي والثقافي والجمالي، وأيضا على حياته العملية المستقبلية التي كانت تتسم في أطوارها المتنوعة بالانضباط والصرامة والدقة في اتخاذ المواقف والقرارات المصيرية التي كانت تنبني عليها حياته.
شب إميليو غارثيا غوميث منذ ولادته في 4 يونيو من سنة 1905 بمدريد في هذا الوسط الذي لم يشعر فيه بحاجة أو حرمان، بالإضافة إلى ما كان يحظى به من اهتمام وعناية متزايدين من قِبَلِ جده من جهة أمه؛ فمن خلال هذا الجد رأى الطفل إميليو المحيط الخارجي بشتى مظاهره، فانفتح على عوالم جديدة من العلاقات الاجتماعية في ارتياد الأندية الثقافية ودور الأوبرا وحفلات المسرح والموسيقى[1] حيث كان ملازما له في هذه المرحلة المبكرة من حياته. هذا الجد ترك أثرا إيجابيا فعالا في تكوين ذوق إميليو الصغير وتحديد مساره وتوجهاته نحو الثقافة والتحصيل العلمي وتربية الحس الجمالي؛ مع توسيع أفقه المعرفي والفكري والاجتماعي.
وهكذا وفي هذه السنوات المبكرة جدا من حياته - سن ست عشرة سنة - بدأ يطرق عالم الكتابة؛ فصاغ عملين انطباعيين عن لوحتين مشهورتين بمتحف برادو بمدريد، الأولى للإمبراطورة إيسابيل دي تيثيانو La Emperatriz Isabel de Tiziano . والثانية للأمير بلتسار كارلوس El príncipe Baltasar Carlos وهما معًا للرسام الإسباني الكبير بلاثكيث Velázquez[2]. بعد ذلك بقليل سينشر إميليو بعض أشعاره في مجلة " إسبانيا España " Revista .
هذه المحاولات الانطباعية البسيطة كانت بمثابة تجليات أولية مبكرة لغوميث في مجال الكتابة والإبداع؛ إذ تكتسي طابعا فنيا حيث تقتصر على وصف لوحة أو كتابة محاولة شعرية أو تعليق على موضوع في عجالة.
وفي تلك الأثناء التي كان غوميث الطالب يقطع مراحل دراسته الجامعية بعزم وثبات كان في جامعة مدريد ثلة طيبة صادقة من الباحثين والعلماء الإسبان يواصلون بإصرار وتحد وصمود ترسيخ الدراسات العربية الأندلسية بإسبانيا، بعدما أسس قواعدها وأرسى دعائمها كل من باسكوال دي غاينغوس Pascual de Gayangos [3] وفرانثسكو كوديرا إي ثايدين Francisco Codera y Zaidín [4] من بعده ، ومن صِنْف هؤلاء العلماء كان أيضا خوليان ريبيرا إي طاراغو Ribera y Tarrago Julián [5] الذي أحدث بدراساته وأبحاثه الجريئة حول الثقافة العربية الأندلسية عموما، ودراساته للموشحات الأندلسية وديوان ابن قزمان ضجة علمية كبيرة غيرت من تصورات كثير من الدارسين لتاريخ الثقافة الأندلسية الإسبانية القديمة ، ثم ميغيل آسين بلاثيوس Miguel Asín Palacios [6] الذي كان يخوض أيضا معاركه الكبرى في المحافل العلمية لإثبات أفكاره حول الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية لدانتي[7]، ودراساته عن التأثيرات الإسلامية الأندلسية في الفكر الأوروبي والغربي[8].
فعلى يدي هذين الأستاذين الكبيرين: ريبيرا وآسين واصل غوميث تعلمه للغة العربية؛ بعد أن حقق في السنوات القليلة السابقة تقدما مهما في تحصيل قواعدها واستيعاب مبادئها.
ويمكن أن نعتبر الموسم الجامعي (23-1924) بداية الانطلاق الرسمي لتعلم ودراسة غوميث للعربية بإشراف الأستاذ آسين[9]، كما حظي بإعجاب وتقدير أستاذه ريبيرا، فواصل معهما دراسته الجامعية في هذه اللغة، وتوطدت علاقته بهما إلى حد كبير على أساس من البحث، والاشتغال بمعطيات التراث الأندلسي وقضاياه ومكوناته المتعددة فيما بعد؛ فشاركهما في الاهتمام بقضاياه.
وهكذا ففي الموسم الجامعي (1924م – 1925م) أنهى غوميث دراسته الجامعية بكلية الفلسفة والآداب حاصلا على جائزة استثنـائية Premio Ribadeneyra ، وسنه لا يتعدى تسع عشرة سنة[10].
والواقع أن نفسه كانت تستجيب لطموح أكبر وأهم من ذلك قد يصل إلى حد الكمال في نظره وهو الحصول على درجة أرقى في مراتب الدراسات الجامعية، ففي 9 فبراير من سنة 1926 سينال درجة الدكتوراه وعمره آنذاك 21 سنة بأطروحة في الأدب المقارن بعنوان: "قصة عربية هي أصل مشترك بين ابن طفيل وغراثيان"[11]، وقد نشرها في نفس السنة أي سنة 1926 بمجلة: Revista de Archivos, Bibliotecas y Museos. Madrid التي كانت تصدر بمدريد.
وهذه الأطروحة بموضوعها الطريف الجديد أحدثت وقعا كبيرا في الأوساط العلمية المهتمة بمجال الدراسات المقارنة؛ وأثارت فيضا من الأسئلة والإشكالات في مباحث الأدب والنقد المقارن بما توصلت إليه من حلول، وما وفرته من إجابات عن هذا الموضوع الذي طالما ظلت أسئلته معلقة بدون إجابات علمية مقنعة في مجال النقد المقارن.
شرع غوميث في تلك الفترة في تحقيق أول خطواته في عالمه الكبير المليء بالطموحات وهي أن يصبح باحثا مشاركا في صناعة ملامح الدراسات المقارنة بإسبانيا مثل أساتذته: ريبيرا وآسين وغيرهما، وزاد من هذا الطموح وأذكاه أن عُين في 15 نوفمبر من سنة 1926 أستاذا مساعدا في كلية الآداب والفلسفة بجامعة مدريد.
بعد ذلك وفي سنة 1927 سيسافر إلى مصر لتعميق معلوماته ومعارفه في اللغة العربية، يقول الباحث المصري الدكتور محمود علي مكي عن هذه الرحلة العلمية لغوميث: » ... وكانت علاقته قد توثقت خلال دراسته في الجامعة بأستاذه آسين بلاثيوس الذي توسم فيه مخايل نبوغ مبكر، ولهذا فقد رشحه للتدريس بكلية الفلسفة والآداب، ثم لمنحة دراسية رأى أن تتحول إلى بعثة يقضيها في بلد عربي حتى يستزيد فيها من معرفته بالعربية، وكان أن وقع الاختيار على مصر، وذلك بتوصية من خوليان ريبيرا وبتمويل من دوق ألبا«[12].