كتاب " الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس " ، تأليف د. محمد العمارتي ، والذي صدر عن دار الجنان عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس
ج - غوميث سفيرا لإسبانيا بأنقرة (1962-1969).
قدم غوميث أوراق اعتماده إلى رئيس الجمهورية التركية وقتئذ الجنرال جمال غورسيل[59](1895-1966) بتاريخ 21-12-1962، ومع بداية سنة 1963 بدأ السفير غوميث يكوِّن معلوماته ويجمع الحقائق عن الوضعية السياسية والاقتصادية والثقافية لتركيا الحديثة، فانتهى إلى تكوين تصور راسخ أن المنطقة برمتها كانت تغلي فوق فوهة بركان، إذ لم تكن منطقة سلام واستقرار سياسيين. فكان العراق وتركيا يعيشان صراعات سياسية داخلية كبيرة، ويشهدان سلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة، وهذه الوضعية الصعبة كانت تضاعف من مهمة السفراء إن لم تجعلها صعبة للغاية، فتوصل أيضا إلى استنتاج هو أن تركيا الحديثة تعيش أوضاعا غير مستقرة حينها؛ وأن الائتلاف الحكومي الذي كان يتزعمه السياسي الشيخ عصمت إينونو[60] إنما هو محاولة جاهدة للخروج من المشاكل الخانقة التي تشهدها تركيا والبحث عن الحلول الناجعة للخروج بالبلاد من هذه الوضعية الصعبة التي لا تطاق، إذ كان من نتائج الانهيار الاقتصادي وتسلط الحزب الواحد أن عمت الاضطرابات خلال سنة 1960 التي انتهت بانقلاب عسكري في 27 ماي 1960 بزعامة الجنرال جمال غورسيل الذي أزاح حكومة عدنان مندريس[61] وقدمه مع رئيس الجمهورية جلال بايار إلى المحاكمة. هذا الانقلاب الذي اعتبره بعض المفكرين الأتراك بمثابة إعلان للجمهورية التركية الثانية.
وبعد الانقلاب الفاشل الذي قام به الكولونيل المتطرف أيديمير Aydimir أكمل غوميث تصوره عن تركيا معتبرا أن أمر تقدمها أو تأخرها يكمن في الخروج الذي لا مفر منه من تأثير وفتنة النموذج الأتاتوركي، لبناء تركيا أكثر ديمقراطية وانفتاحية على العالم[62].
نؤسس في ضوء هذه المعطيات أن هذه الآراء والمواقف السياسية التي بلورها السفيرغوميث عن دول هذه المنطقة لم تكن تصورات صادرة عن إنسان عاد بسيط، أو معبرة عن رؤية ارتجالية اعتباطية انفعالية ، وإنما كانت تحمل دلالات عميقة متأنية من رجل خابر للحياة الإنسانية في عمومها؛ ورجل دارس للتاريخ القديم وللحضارات الإنسانية القديمة وسبل تقدمها وازدهارها أو تأخرها واندثارها، فكانت له نظرات وإرهاصات مهمة حول مآل هذه السياسات غير المستقرة في دول الشرق الأوسط آنذاك. فكان يتنبأ بالأحداث قبل وقوعها لحسه العميق الثاقب.
كان يراقب عن كثب التطورات المهمة التي تشهدها تركيا الحديثة، وهي تبني حضورها الفعلي في العالم الحديث، حيث كانت الرغبة كبيرة لدى الحكومات التركية المتعاقبة في الانضمام إلى السوق الأوربية المشتركة منذ ذلك الوقت، ولكن هذه الرغبة كانت تتعثر وتصطدم بنفس العراقيل القائمة من زمن غير قريب وهي: النمو الاقتصادي غير المتكافئ أو المتساوي مع باقي الدول الأوربية المنضوية في السوق، وأن المجتمع التركي بعيد تاريخيا وثقافيا عن أوروبا المسيحية ثم أخيرا مشاكل احترام حقوق الإنسان والديمقراطية والعداوة مع اليونان[63].
كان لدى السفير غوميث أيضا فرصة ووقت كافيان لحضور الانتصار الجديد لديميريل[64] في انتخابات أكتوبر سنة 1969 أمام الأحزاب الأخرى المشاركة كالحزب الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان والحزب القديم لأتاتورك وعصمت إينونو، ومعنى هذا انتصار للتعبير ولمؤسساته، ولكن كل هذه الأحداث السياسية المتطورة التي ستعرفها تركيا ستكون غير ذات جدوى إذا لم يصاحبها تحول جذري في البنية الاقتصادية للبلاد التي كانت تعرف تدهورا وتخلفا نسبيين، لا شك أن كل ذلك دفع بالسفير إلى صياغة تصور يتسم بنوع من الموضوعية حول الوضعية الاقتصادية قائلا: « إذا كانت الامبراطورية العثمانية هي الرجل المريض لأوروبا فإن تركيا ما بعد أتاتورك أصبحت الرجل المريض اقتصاديا«[65]
ولكن كيف كانت العلاقة الإسبانية/ التركية في سياق هذه التحولات التي كانت تشهدها تركيا؟
العلاقة الإسبانية/ التركية لم تخضع لجميع هذه العراقيل الداخلية والخارجية التي كانت تمر بها البلاد وقتئذ؛ بل كانت جيدة وطيبة إلى حد كبير قبل مجيئ غوميث وفي عهده أيضا؛ كل ذلك نسج علاقات يسودها التعاون المشترك بين البلدين كانت أهمها تلك التي كانت تجمع بين غوميث وإركين Erkin وزير الخارجية في حكومة عصمت إينونو الذي غمر غوميث بكل أنواع اللطف والمجاملة وكرم الضيافة وحسن الوفادة، فكان عليه ضيفا مكرما معززا هو وزوجته السيدة: ماريا لوسيا Maria Luisa بشكل لافت؛ يدعو إلى الإعجاب والاهتمام بالمستوى الذي وصل إليه السفير بتركيا وبالمستوى الرفيع من العلاقات التي كانت تجمع بين الرجلين[66].
وخلال سنة 1969 سيصبح غوميث عميدا للسلك الديبلوماسي، هذا التشريف السياسي الذي ناله غوميث لم يدركه أي سفير إسباني طيلة عشرين سنة من هذا التاريخ[67].
كانت سفارة غوميث بأنقرة مؤثرة وفعالة وإيجابية . وفي أكتوبر سنة 1969 توقف الوزير كاستيا Castiella عن ممارسة مهامه في تحمل أعباء الوزارة الخارجية، غوميث الذي كان يعتبر بأنه سفير Castiella بسبب الثقة الاستثنائية التي كانت بينهما، قدم هو أيضا استقالته. وفي بداية سنة 1970 استأنف غوميث مهمته العلمية بجامعة مدريد، فاستعاد نشاطه العلمي وحيويته الجامعية المعتادة وانتهت بذلك سنوات العمل الديبلوماسي في حياته بالشرق العربي الإسلامي.
بقي كنهاية لهذا المهمة اعتماده كمفوض غير مقيم بكابول عاصمة أفغانستان، خلال مدة السفارات الثلاث التي تحمل غوميث مسؤوليتها ، فكانت في الأصل تمثيلية هذه السفارة بأفغانستان تسند إلى السفير الإسباني ببغداد. بمعنى أن السفير الإسباني ببغداد هو نفسه الذي يقوم بتمثيل بلاده بكابول أيضا، يرعى شؤونها هناك، ولكنه يقيم ببغداد.