كتاب " الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس " ، تأليف د. محمد العمارتي ، والذي صدر عن دار الجنان عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس
إلى الوزير ـ كما ذكرناـ عن الحياة الجامعية والثقافية والتيارات الفكرية والفنية التي كانت تشهدها لبنان وقتئذ ، مع ما كان يعرفه فضاء النشر من إصدارات للمجلات والكتب العديدة التي تهتم بشتى فنون المعرفة وألوان الإبداع؛ وقد ميز في هذه الحياة الفكرية بين منزعين اثنين لا يمكن التوفيق أو الجمع بينهما، هما: منزع التقليديين ومنزع المجددين حيث كانت لهؤلاء المجددين أهمية كبرى، خصوصا الذين اهتموا بمجال الشعر العربي الحديث التي كانت مجلة(شعر) البيروتية المشهورة منبرا لأصواتهم؛ تحتضن إبداعاتهم باستمرار[48].
وقد أظهر غوميث للعيان باعه الطويل في إثراء المشهد الثقافي ببيروت بماله من خبرة وتراكم كبيرين، حيث تعاون أيضا مع بعض الإصدارات كمجلة (الشرق الأدبي) "Orient litteraire" وكانت مجلة فرنسية خالصة، ولكنها – حسب غوميث- لها صدى واسع في لبنان، كما ساهم بتجربته المهمة في أنشطة كثير من المراكز الثقافية الفرنسية والإيطالية[49].
فحوَّل ذلك الركود الذي عاشه في سفارته ببغداد إلى خلق دائم وابتكار مستمر سواء بالعروض والمحاضرات العلمية أو بكتابة المقالات، فكانت مرحلة لبنان خصبة ثرية في حياة غوميث العلمية.
إلى جانب ذلك تابع عن قرب الأنشطة الثقافية والعلمية التي كان يقوم بها المركز الثقافي الإسباني ببيروت[50].
ولكن ما هي الأشياء التي يستطيع المتتبع لمسيرة غوميث في هذه المرحلة أن يلحظها على مستوى الحياة الاجتماعية ببيروت؟
نسجل منذ البداية أن السفير عرف في لبنان حياة اجتماعية لامعة جدا فيها من الترف والنعم وفرص العيش الرغيد الشيء الكثير، فلم يجد ببيروت إقامة أو مسكنا عاديا، بل وجد قصرا فاخرا ، فيه ترف ويسر، كان هذا القصر للأمير فريد شهاب المدير القديم للأمن مع شمعون، ثم كان بعد ذلك سفيرا بغانا وبتونس، الذي قال عنه غوميث: »إنه من الشخصيات البيروتية البارزة«[51].
كما نسجل أيضا أن غوميث عرف في خضم ذلك علاقات ديبلوماسية واجتماعية مهمة خصوصا مع رئيس الدولة حينها الجنرال شهاب[52]، ووزارئه، وباقي طبقات المجتمع اللبناني الراقية، والسلك الديبلوماسي المعتمد ببيروت إذ جرت العادة في لبنان أن السفراء المعتمدين ببيروت يستدعون مرات عدة إلى الحفلات الرسمية الكبرى التي كانت تنظم بشكل راق وممتع جدا تدل على ذوق وحضارة عظيمين.
كان السفير غوميث يحضر ويشارك في كثير من المراسيم والحفلات التي كانت تقام ببيروت حينها التي يحضرها كبار المسؤولين كالوزراء ورجال السياسة والأعيان والسفراء الأجانب المعتمدين ببيروت، والطبقات الأرستقراطية اللبنانية والشخصيات في عالم الفكر والثقافة والفن[53].
وربما أبرز ما كان يميز المجتمع اللبناني في هذه المرحلة التي كان غوميث فيها سفيرا بلبنان هو سيادة روح التعايش الإثني الديني بين كافة الأقليات التي تشكل نسيج المجتمع اللبناني ، ويرجع الفضل في تحقيق ذلك - كما يذكرVillanueva - إلى الرجل الأول في لبنان آنذاك الجنرال شهاب الذي كان محور السياسة الداخلية للبنان في الوقت الذي وصل إليها غوميث، يقول عنه Villanueva » بأنه عمل بشكل ذكي على ترسيخ حب لبنان في أذهان غير المسيحيين، كما كان إكسابه للمجموعات الإسلامية إلى صفه وعملها إلى جانبه هدف مخطط عمله الاقتصادي والاجتماعي.
كان يبحث دائما ليس فقط عن الازدهار والرخاء للجميع مع النهوض بمستوى حياة اللبنانيين، وإنما أيضا كان طموحه السياسي أن يجمع كل هذه الفسيفساء من الطوائف اللبنانية؛ ويجعلها تنصهر بوتقة واحدة متجانسة وأن يحس الجميع بأنهم شعب واحد لوطن واحد هو لبنان. كان ينادي دائما بأن مشاكل الدول العربية ينبغي أن تحل من قِبَلِ العرب أنفسهم«[54] بدون تدخل قوى أجنبية غريبة عن المنطقة.
وضعية غوميث الديبلوماسية كسفير لإسبانيا بلبنان والتسهيلات الكثيرة التي قدمت إليه للقيام بمهمته خير قيام يلخصها هو بنفسه في إطار تقييمه لحصيلة هذه المرحلة يقول:
» الدور السياسي لسفير إسباني بلبنان سهل بما فيه الكفاية، إذ في الواقع يمكن إيجاد قرابة لافتة للنظر بين شريحتين من السكان اللبنانيين: مع المسيحيين من خلال السياسة الغربية الحالية ومن وحدة الإيمان، ومع المسلمين من خلال استثمارنا لحصيلة تاريخنا المشترك للعصور الوسطى...«[55].
إن وظيفة غوميث كسفير هيأت له سبل الاتصال والالتقاء باستمرار بكثير من رجال السياسة اللبنانيين وربط علاقات متينة قوية معهم مثل: رشيد كرامي ووزير الخارجية اللبناني آنذاك السيد فيليبي تاكلا Philippe Takla وأيضا مع السياسي البارز نائب الرئيس الشيعي لغرفة مجلس النواب السيد كاظم الصلح[56].
إن سفارة إميليو غارثيا غوميث بلبنان كانت مثمرة وإيجابية إلى حد كبير على مستويات عدة: سياسية واقتصادية وثقافية... فقد ودع غوميث لبنان في الأيام الأخيرة لسفارته بها بمحاضرتين: الأولى ألقاها بالجامعة الأمريكية حول موضوع "لويس ماسينيون" الذي توفي في تلك الأيام. والثانية كانت متميزة في طريقة تنظيمها ألقاها بكلية الآداب الفرنسية، حيث كانت ترافقه بالعزف على البيانو (البيان) الأستاذة: ديانا تقي الدين أثناء إلقائه لمحاضرته التي كان موضوعها "استذكار الأندلس من خلال ماتشادو وألبنيث"[57]. وكانت برعاية الشبيبة الموسيقية بلبنان، وبعد نخب عشاء الوداع بالسفارة الفرنسية ببيروت قال السفير غوميث كلمة مقتضبة ومؤثرة وبليغة جدا في حق هذا البلد الجميل: ( لبنان جنة ولكنها ذات أشجار تفاح كثيرة )[58]. وهكذا انتهت سفارة غوميث بلبنان في 7 دجنبر من سنة 1962 ليصبح بعدها سفيرا رسميا لبلاده بتركيا.