كتاب " الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس " ، تأليف د. محمد العمارتي ، والذي صدر عن دار الجنان عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الإستعراب الإسباني وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس
فكان هذا المخطوط لابن سعيد المغربي نقطة انطلاق لدراسات وأعمال غوميث عن الشعر الأندلسي، ومفتاحا لصياغة كتاب العصر ( أشعارأندلسية ) فيما بعد، وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذا الكتاب (الرايات) هو الذي وجه تصورات غوميث في هذا الميدان؛ وأطر تفسيراته واستنتاجاته حول الشعر الأندلسي بوجه خاص.
وأول عمل في هذا المشروع كما ذكرنا آنفا هو ترجمته إلى الإسبانية مختارات شعرية من هذا المخطوط ، نشرها في بداية الأمر كمقال مقتضب سنة 1928 بمجلة " الغربOccidente " ثم وسع منها بعد ذلك مضيفا إليها بشكل مهم عددا من الأشعار لم ينشرها من قبل؛ مع مقدمة ذهبية هامة ومفصلة لهذا الشعر ولمراحل تطوره وازدهاره بالأندلس منذ بداياته الأولى المبكرة؛ فأصدر ذلك كله سنة 1930 في كتاب يحمل نفس العنوان هو: "Poemas arábigoandaluces " سنة 1930[22].
وقد أثار هذا الكتاب لعمقه وجدته وفرادته في تقديم الشعر الأندلسي وترجمته موجة من ردود فعل إيجابية جدا، وأثار إعجاب ودهشة النقاد والشعراء داخل إسبانيا وخارجها. أهمية هذه المختارات الشعرية المترجمة في الثقافة والأدب الإسبانيين فاقت كل التوقعات وتأثيرها على شعراء إسبانيا العصر الحديث حقيقة ثابتة بادية للعيان لا ينكرها إلا جاحد أو مجانب للحقيقة الماثلة أمامه[23].
ونحن هنا لسنا في معرض تتبع خطوات هذا التأثير وتجلياته ومواطنه في أعمال الشعراء الإسبان، فهذا مجال آخر خارج عن طبيعة عملنا في هذا الفصل، وبعيد عن مقصديته وغايته وقد أشارت الباحثة والمستعربة الإسبانية ماريا خيسوس بيغييرا مولنس Maria Jesús Viguera Molins[24] إلى نموذج من نماذج هذا التأثير المتمثل في أعمال الشاعر الإسباني المعروف رامون غوميث دي لاسيرنا Ramón Gómez de La Serna وذلك بنوع من التتبع والتقصي[25].
وهكذا فإن علاقة غوميث بالعالم الإسلامي وصلاته بأفراده لم تنته بانتهاء رحلته التعلمية، بل استمرت طيلة حياته الطويلة، واتخذت هذه المرة وجهة أخرى فلم تعد رحلة تعلم وطلب التوسع في المعرفة العربية، بل أصبحت مرحلة تثاقف وعروض وندوات ومحاضرات وتمثيل دبلوماسي، حيث اتخذت تجليات متعددة تبعا لطبيعة الرحلات وغاياتها، إلا أن الجديد فيها هذه المرة هو النشاط الحيوي الكبير الذي تميزت به، بالإضافة إلى ما كان يتمتع به من رعاية وعناية بارزتين عند حكام هذه الدول ومثقفيها وعلمائها ودبلوماسييها.
ولم تكن أواصر المحبة والتقدير والعلاقة الحميمة والتعاون الثقافي التي تجمع بين غوميث والعالم الإسلامي والعربي تقف عند حدود مصر فقط. بل تعدتها إلى خلق تواصل شمولي كذلك مع باقي العواصم الأخرى المجاورة لمصر، إذ في 28 دجمبر من سنة 1948 وبقرار من رئاسة الجمهورية السورية؛ وباقتراح من وزارة التعليم الرسمي سَيُعَيَّنُ غوميث بدمشق عضوا مراسلا لهذه المؤسسة[26].
إلا أن مصر كانت لها مكانة خاصة في قلب غوميث وعقله، فقد ظل شديد الوفاء والامتنان لما قدمه هذا البلد إليه من ألوان العناية والرعاية، ولهذه كانت رهاناته الكبرى تهدف إلى خلق جسور التعاون والتواصل الثقافيين مع مصر بوجه خاص، مع البحث عن
أسس قوية راسخة لترجمة هذا التعاون والتواصل بين البلدين على أرض الواقع ليصبح حقيقة ملموسة بادية العيان؛ فكانت » أول خطوة في هذا الطريق تأسيس المعهد المصري للدراسات الإسلامية في سنة 1950... ونحن نعلم أن مؤسس هذا المعهد كان طه حسين الذي كانت له نظرة مستقبلية، وأن أول فكرة لخلق مؤسسة على أرض إسبانيا تكون حلقة وصل بين ثقافة البحر الأبيض المتوسط وأوربا ولدت انطلاقا من المحدثات التي تمت بين غوميث وطه حسين بالقاهرة«[27].
ومع انطلاقة هذا المعهد شارك غوميث إلى جانب أساتذة إسبان مشهورين ومعروفين بمحاضرة بمقر المعهد بمدريد يوم الاثنين 25 فبراير1952 بعنوان " الشعر العربي الأندلسي، خلاصة تاريخية موجزة "[28].
وهكذا ومنذ 1954 قامت الحكومة الإسبانية بإنشاء المعهد الإسباني العربي للثقافة[29] " Instituto Hispano-Árabe de Cultura" بمدريد الذي أصبح يسمى اليوم "معهد التعاون مع العالم العربي" Instituto de Coperación con el Mundo Árabe ، كان هذا المعهد تابعا لوزارة الشؤون الخارجية وأسندت إدارته لغوميث، فكان أول مدير له، ولكن لماذا بالضبط وقع الاختيار على غوميث لإدارة هذه المؤسسة الثقافية/السياسية؟
يقول محمود علي مكي مجيبا على هذا السؤال: » كانت العلاقات بين إسبانيا والعالم العربي منذ أواخر الأربعينات قد أصبحت أحد المحاور الرئيسية التي ترتكز عليها سياسة إسبانيا الخارجية، وخاصة إزاء العزلة التي كانت تعاني منها البلاد والحصار المفروض عليها سواء من جانب العالم الغربي أو من الكتلة الشرقية، ورأت الحكومة الإسبانية أن غرسية غومس [ غارثيا غوميث ] بحكم خبرته ومكانته هو خير من يستطيع تمثيلها في الحوار مع عالم العروبة، وفي هذا السياق أقدمت وزارة الخارجية الإسبانية في سنة 1954 على إنشاء "المعهد الإسباني العربي" وكان من الطبيعي أن تسند إدارته إلى غرسية غومس [غارثيا غوميث] « [30].
وهكذا يضاعف غوميث مساعيه التي ابتدأها في السابق فيرفع من وتيرة تعاونه مع العالم الإسلامي والعربي حيث يمنح أهمية كبرى لهذه العلاقات تاركا بها تأثيره الشخصي والمعرفي والثقافي والعلمي الذي لا ينكر، فما كان من هؤلاء العرب من سياسيين ومثقفين ورجال الفكر إلا أن قابلوا هذه الاهتمامات بنوع من العرفان بالجميل والرعاية والتشريف لصاحبها، ففي 26 يناير من سنة 1950 منحه عاهل المملكة الأردنية الهاشمية الملك عبد الله بن الحسين وسام الاستقلال من الدرجة الأولى[31].
ولكن ابتداء من شهر أبريل من نفس السنة ستعرف هذه العلاقة الجامعة بين إسبانيا وهذه الدول قفزة كبيرة إلى الإمام، بحيث ستأخذ طابعا رسميا وعلى مستوى عال من التمثيلية؛ فقد ترأس وزير الشؤون الخارجية الإسباني آنذاك السيد: ألبيرطو مارتين أرطاخو Martín Artajo زيارة رسمية للبلدان العربية مصطحبا معه غوميث لقيمته العلمية التي اكتسبها عند هذه البلدان، وباعتباره وجها مألوفا ومحترما لديها . والغرض من هذه الزيارة هو توثيق عرى الصداقة بين إسبانيا وهذه الدول، ومن بين بنود هذه العلاقة ربط الجسور الثقافية والسياسية والاقتصادية المتينة والقوية معها، وقد كانت هذه
المهمة ناجحة جدا وبكل المقاييس؛ ابتدأت من بيروت ثم عمان ودمشق وبغداد والرياض والقاهرة أيضا[32]. وكانت هذه الزيارات الرسمية ذات هدف مزدوج: ثقافي وسياسي؛ وكان غوميث في هذه الزيارات يشكل دائما عنصرا سياسيا في الوفد مستشارا أو مساعدا ثقافيا.
وأخيرا توجت جهود غوميث الإيجابية ومساعيه الحميدة لخلق جسور التواصل بمستوياتها المختلفة بين إسبانيا وهذه الدول توجت بتعيينه سفيرا لإسبانيا بالعراق بموجب قرار صادر عن الوزارة الخارجية الإسبانية بتاريخ 20 مايو 1958. وبهذه المناسبة السعيدة أقيم احتفال بهيج على شرفه من قبل الطلبة العرب الذين كانوا وقتئذ يحضرون شهادة الدكتوراه بجامعة مدريد يوم 25 يونيو بمقر العلاقات الثقافية[33].