كتاب "دراسات في تاريخ المغرب العربي المعاصر " ، تأليف د. محمد علي داهش ، والذي صدر عن دار مركز الكتاب الاكاديمي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب دراسات في تاريخ المغرب العربي المعاصر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تستوقفنا هنا الخلاصة الثالثة في الرؤية الفرنسية الاستعمارية التي تضع الأسس، ليس للتفكيك والفصل الاجتماعي الوطني، وإنما لتبعية مستقبلية للبربر لفرنسا، ومن هنا جاءت القرارات والمواقف الفرنسية وسلطاتها المحتلة لتنفيذ هذا المخطط التقسيمي والعدائي للهوية بين أبناء المغرب بخاصة بعد ان اثبتت ثورات وانتفاضات الجزائر طوال القرن التاسع عشر، عقم سياسة الفصل العنصري بين العرب والبربر، حيث كانت مناطق البربر (القبائل الكبرى والصغرى) مناطق دفاع في العمق عن الوحدة الوطنية والانتماء الديني والثقافي والحضاري الواحد.
أصبح المغرب مجال التطبيق الرئيس للمخطط الاستعماري في العدوان ومحاولة القضاء على (الهوية) لسكان المغرب بعامة وللبربر بخاصة. ونظراً لرسوخ المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية (جامع القرويين وغيره …) في المدن، فقد توجهت نحو المناطق الجبلية والصحراوية حيث الكثافة البربرية، في محاولة للتأسيس لكيانية ذاتية منفصلة عن الكيانية الاجتماعية العامة.
انبنى خطأ الرؤية والموقف الفرنسيان على ان هذه المناطق كانت بعيدة عن سيطرة الحكومة المغربية (المخزن)، وانها كثيراً ما ثارت بوجه السلطة المغربية «نعم ولاسباب لا علاقة لها بالعرق أو اللغة» وانها حسب ادعاءاتهم لم تكن متمسكة بالإسلام وشريعته ولغته!!.
كلف المقيم العام الجنرال ليوتي، واضع أسس السياسة البربرية في المغرب، مجموعة من منظري الاستعمار برئاسة جورج سوردون، استاذ الحقوق الإسلامية للبحث عن صياغة قانونية لأعراف البربر واخراجها في صورة من الحقائق عن طريق إخراج أبحاث ملفقة، وجمعت تلك الأعراف بما أسمته السلطات الفرنسية المحتلة بـ«قانون العرف البربري» عام 1914(17)، وتم إصدار ظهير (قانون) في 11 من أيلول / سبتمبر 1914، وبموجبه فتحت لمناطق القبائل البربرية محاكم عرفية تفصل في القضايا على وفق الأعراف والتقاليد والعادات البربرية في محاولة لاخراجهم مننطاق الشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية الإسلامية. وقد توهمت السلطات الفرنسية المحتلة، ان اهالي هذه المناطق وغالبيتهم من البربر «ان إسلامهم سطحيٌ وليس ببعيد ان يتنصروا ويندمجوا معها»(18).
ان إصدار هذا (القانون المدني) الخاص بالبربر، كان بداية الاستهداف للدين الإسلامي ولشريعته المطهرة، واخراج البربر عن دينهم الحنيف، وزرع الشقاق بين أبناء الوطن الواحد. وقد اوضح جودي فروي ديمونين، أحد منظري السياسة الفرنسية بقوله: «لابد ان نستعمل لفائدتنا العبارة القديمة، فرق تسد،، ان وجود العنصر البربري هو آلة مفيدة لموازنة العنصر العربي. ويمكننا ان نستعمله ضد المخزن نفسه». وفي الهدف العدواني نفسه، كتب أحد موظفي السلطات الفرنسية في المغرب ما نصه: «يجب ان نحذف تعليم الديانة الإسلامية في مدارس البربر، ويجب ان نعلم البربر كل شيء ما عدا الإسلام»(19).
وفي عام 1915، أصدرت السلطات الفرنسية مجموعة من البلاغات اعتبرت اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للبربر، ويتم التداول بها في المعاملات الرسمية والسجلات والعقود والسندات. كما دعت في منشور عام 1919 إلى اعداد الكوادر (الإطارات) العسكرية من أبناء البربر من خريجيالمدارس الفرنسية والمثقفين بالثقافة الفرنسية لحكم المناطق البربرية، وعملت على عزل البربر عن اخوانهم العرب في العديد من المناطق كما حصل في الجزائر(20) ولم تقف السياسة الفرنسية عند هذه الحدود، بل أرادت (تنصير) المغاربة وتغريبهم عن محيطهم الديني والاجتماعي والثقافي العربي الإسلامي، وكان ذلك بانشاء الكنائس الكبيرة والصغيرة، واستدعاء المبشرين من القساوسة والرهبان من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ونشرهم في عموم المغرب. وفيما يخص البربر، فقد اجبرتهم على إرسال ابنائهم إلى الرهبان والقساوسة لكي يدرسوا تعاليم المسيحية، وتعليمهم تاريخ الإسلام بشكل مشوه بعيداً عن الحقيقة. ومارست التقريب بين البربر والرهبان والابعاد عن العرب. وفرضت الحصار على البربر حتى لا تصلهم الكتب والمجلات العربية، لتحل مكانها كتبهم ومجلاتهم التي تهاجم الإسلام وتشوهه(21). كما اجبر الجنرال ليوتي، السلطان يوسف بن الحسن الأول (1912-1927) على إصدار ظهير آخر سمح بموجبه تعديل العرف البربري والذي لم يكن يسمح للأجانب بامتلاك الأراضي في القبائل البربرية، وصدر الظهير في 15 حزيران/يونيو 1922 بتوقيع سلطان المغرب، وتم إلغاء هذا الحق الوطني، وتمكن المستوطنون الأجانب وأغلبهم منالفرنسيين من السيطرة على بعض أراضي القبائل البربرية(22).
بذلت السلطات الفرنسية المحتلة وبدعم واسناد كبيرين من الحكومة الفرنسية والجمعية الوطنية الفرنسية والمؤسسات الكنسية والثقافية والتعليمية، جهوداً كبيرة منذ بداية الاحتلال حتى ثلاثينات القرن العشرين (وكما سعت في الجزائر) إلى احداث الاختلاف في الواقع الاجتماعي المغربي لخلق الخلاف بين أبناء الوطن الواحد، وجاءت محاولاتهم المحمومة في العمل على «تنصير المغاربة وفرنستهم واحداث تفرقة بينهم تتقد بسببها نار فتنة طائفية وعرقية …»(23) أو التأسيس لاتجاه انقسامي في الوحدة الوطنية والاجتماعية والدينية والحضارية عامة. وصدر هذا الظهير في وقت كانت المقاومة المسلحة على أشدها في المناطق الجبلية (جبال الأطلس …)، حيث يدافع المغاربة وأغلبهم من البربر في المناطق الجبلية، ضد الاحتلال وسياسته. وعليه، كان صدور (الظهير البربري) محاولة من الفرنسيين للخروج «من مأزق المقاومة بحل جذري، وبتتويج المراحل المذكورة بإجراء عملي تمثل في تدبير اداري ويجرأوا على إصدار ظهير 17 ذي الحجة 1348/ 16 ماي 1930 (عرف بالظهير البربري) …»(24). وكان أبرز الظهائر (القوانين) التي أصدرتها السلطات الفرنسية المحتلة.
ان أبرز مظاهر السياسة الفرنسية، كان صدور (الظهير البربري) عام 1930. هذا الظهير، أخرج السياسة الفرنسية العدوانية على (الهوية) إلى العلن، وكشف الوجه الكالح لمنظريها ومنفذيها مثلما كشف ابعادها الدينية والثقافية والسياسية ايضاً.
تكون (الظهير البربري) من ثمانية فصول، أكدت على إخراج البربر من سلطة الحكومة المغربية (المخزن) ومن الشريعة الإسلامية وقد استخلص المغاربة من الظهير البربري ثلاثة أمور:
1- فصل قسم من المسلمين المغاربة عن القضاء الشرعي.
2- تحويل المسائل القضائية في مناطق البربر إلى المحاكم الفرنسية، وعد ذلك في نظر المغاربة بمثابة خطة لتنفيذ سياسة (التنصير) واعلان (حرب صليبية جديدة).
3- تمزيق وحدة السلطة المغربية، وعد ذلك خرقاً صريحاً لمعاهدة الحماية (معاهدة فاس) لعام 1912(25).
وبدأت السلطات الفرنسية المحتلة بوضع (الظهير البربري) موضع التنفيذ، واتخذت مجموعة من الإجراءات منها، تصعيد نشاط الإرساليات التبشيرية، وزيادة اعداد المبشرين من القساوسة والرهبان (اكثر من 1000 شخص) وبشكل لم يسبق له مثيل منذ احتلال المغرب عام 1912 وقامت بانشاء المدارس ودور الأيتام في مناطق البربر، واجبرتهم على إرسال ابنائهم إلى المدارس التبشيرية بحجة التعليم العصري، ومن جهة اخرى قامت بمنع علماء الدين والوعاظ المسلمين من تأدية واجباتهم في المساجد أو القاء المحاضرات الدينية وعينت عدداً من رجالاتها المتعصبين والحاقدين على الإسلام في الوظائف الإسلامية مثل العدلية الإسلامية، ومكتب المطبوعات العربية، والتعليم الإسلامي، والوثائق التاريخية، ليمارسوا نشاطهم من خلال مواقعهم في هذه المؤسسات. وخصصت الجمعية الوطنية الفرنسية، الاعتمادات المالية اللازمة لتصعيد حركة التبشير (التنصير)، فيما خصصت السلطات الفرنسية في المغرب مبلغاً يزيد على ثلاثة ملايين فرنك من ميزانية الدولة
المغربية!! إعانات للإرساليات، وخصصت الكثير من إيرادات الأوقاف الإسلامية!! للهدف ذاته(26).
اتفق عدد من الدارسين على وجود (دوافع سياسية ودينية) وراء إصدار هذا الظهير، كان الهدف منها «ترسيخ الوجود الفرنسي في المغرب عن طريق تمزيق وحدته، وابعاد الأمازيغ – البربر – عن العروبة والإسلام» والعمل على «وضع حد للمقاومة الأمازيغية – البربرية – واحكام قبضتها على مجموع البلاد»(27). ومع بداية احكام قبضتها على المقاومة المغربية واسكاتها في مناطق جبال الأطلس منذ عام 1934، قامت السلطات الفرنسية المحتلة بإصدار ظهير آخر مكمل للظهير البربري في 8 نيسان / إبريل 1934، منعت بموجبه حرية الرأي والتعبير، ومنع دخولالمجلات العربية إلى المغرب، وعطلت الصحف الوطنية، وضيقت الخناق على الأصوات المناوئة لسياستها العدوانية ولاسيما من علماء الدين والمثقفين الذين بدأوا يكشفون حقيقة السياسة الفرنسية تجاه الشعب المغربي بأجمعه(28)، فكانت البداية للكفاح المغربي والعربي الإسلامي للسياسة الفرنسية ومخططاتها ضد المجتمع المغربي وهويته ووحدته الوطنية.