كتاب "الفلامنجو يهاجر من تلمسان" ، تأليف خليل خميس ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب الفلامنجو يهاجر من تلمسان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفلامنجو يهاجر من تلمسان
تتحرك السيارة وهو ينظر إلى البيت ككبسولة ذكريات ابتلعها فأخذ مفعولها يسري في جسده، مسك المقود وبدأ بالتحرك ثم توقف قليلا، فقد كان باب حقل والده الراحل قبالته، فركن سيارته جانبا وترجل منها فدلف إلى الحقل، وما إن أمسك الباب الحديدي الكبير حتى تذكر والده الذي سقى بعرقه تربة ذلك الحقل الذي يتوسط القرية، تذكر الليمون الذي كان يغطي بمساحته ثلثي الحقل، تذكر أيام حصاده حيث العائلة تجتمع كلها، وتساعدهم عمته راضية العجوز التي كانت أسطورة للأطفال في تحملها للحر والرطوبة والشمس الحارقة، وفوق كل ذلك عدم خوفها من الحشرات المخيفة بأشكالها وأنواعها وخاصة العناكب، وما إن ينتهي حصاد الليمون حتى يأتي الحصاد المرهق لأيمن؛ إنه حصاد النخيل الذي يمتلىء الحقل به، يتذكر والده وهو يحثهم على العمل (يداد يا اولاد عاشوا نريد نشاط) فجأة ابتسم متذكرا الحيلة الساذجة التي اكتشفها والده، ففي كل صباح لا بد لأيمن وإخوته ان يقوموا بورد يومي في الحقل في أثناء خروج ثمار النخيل، وذلك بالتقاط كل ما يسقط تحتها من ذلكم الثمار لإطعامها الماشية، ولأنه يحب النوم والوقت صيف حار ورطب يأتي بالدلو فيملأه إلى النصف بالرمل الناعم، ثم يغطي ما تبقى بثمار النخيل، فحاز على اعجاب والدته في السرعة والهمة، لكنه بعد ايام كان في مربع التعنيف بعد انكشاف اللعبة، تذكر وهو يمشي إلى داخل الحقل المكان الذي دفن فيه عصفوره الصغير، والذي بكى كثيرا عليه، وكان أول مرة يتعرف فيها على الموت، تذكر لعبته المفضلة بعد أن يأتي من (الكتاب) فيدعو الفتيات اللواتي يدرسن معه بكل براءة إلى لعبته، حيث يدفن ثمار النخيل الأخضر ويعطي كل واحدة شوكة لتغرسها في الأرض؛ ليكون الفائز من يخرج عددا أكبر؛ وهو سعيد جدا لأنه حاز على إعجابهن كلهن في نظره وبأنهن يتنافسن عليه، تذكر حين حزن والده ودموعه الغزيرة التي سالت حين قرر ازالة شجر الليمون الذي أصابه المرض، وكان وسط ذلك الشجر شجرة أحبها أيمن كثيرا وكان صديقا وفيا يداريها ويناجيها في كل يوم وهي شجرة (الزام)، كانت تمثل له الكثير، أخذ والده يصرخ عليه ليبتعد عنها وإلا سيكون هو والشجرة تحت الجرافة، لكنه أغمض عينيه واستسلم لقدره قائلا لوالده وبصوت عال وهو يحتضن جذعها دون وجل أو خوف من الغبار والهدير الذي تحدثه الجرافة:
- أبي إما أن نكون معا أنا وهي أو لا نكون·
هز الوالد رأسه غاضبا ومستنكرا لهذا الفعل والعناد غير المحدود، لكن قدر الآباء أن يمشوا أحيانا وراء نزوات أطفالهم؛ فيتحولوا هم الراعي والآباء هم الرعية، لم تكن من حيلة سوى الرضوخ لهذه الكتلة البشرية الصغيرة، تذكر ذلك الكلب الجريح بعد أن أطلقت عليه دورية للشرطة النار في سياق حملتها ضد الكلاب المسعورة، وقد كان مصابا بطلقتين، أخذه أيمن وعالجه وإخوته وأزالوا الرصاصتين، وبدأت تدب في جسده العافية، وكان الجميع يتوقع أن يكون وفيا مخلصا لهم ذلك الكلب، لكن الأمر كان مفاجأ له، فلأول مرة يتعرف على معنى الخيانة، فقد هرب الكلب ليضيف إلى قاموسه الصغير معنى التبدل والتحول ونكران الجميل، تذكر حين يجمع أطفال القرية في الحقل ويبدأون بممارسة لعبة الحرب الملتهبة - كما يسميها - وذلك بالتقاذف بالطين، الذي يسبب معظم الأحيان سيلان الدماء بسبب الحصى الصغير في داخله·
تذكر الساعات الطويلة التي يقضيها في حوض الماء في الحقل، فيغدو كأنه كائن مائي وقد التوى جلد أطرافه وأصبح لونه فاقعا، تذكر الساعات الطويلة جدا التي يقضيها مع بعض إخوته لمراقبة الطائر النادر الهدهد الجميل، فيرتفع الجدل بعد ذلك حين يحرك رأسه: -
- ألا ترون ماذا يفعل؟ إنه يصلي (سالم)
- لا إنه كأي طائر يتحرك بحسب طبيعته (أيمن)
- صدق سالم ألا ترى وهو يخفض رأسه إنه يسجد (علي)
- هو يبحث عن الحب فقط صدقوني (أيمن)
تذكر أساطير الجن والسحرة، فجميع الأطفال في القرية يجمعون أن حقلهم مليء بهم، فهو يعتبر مرتعا ووكرا لهم، ولا أدل على ذلك من مغسلة الموتى التي أوقفها والده ليغسل فيها أهل القرية موتاهم، فبعد تغسيل الميت تبقى آثار الحنوط والعطور التي تعارف الناس عليها وحصروا رائحتها على من يخرج من معترك الحياة فقط، وفي الليل يخرج ذلك الميت ويأتي الحقل ليسكن تحت الأشجار، تذكر كيف كان يجوب الحقل بين أشجار المانجو وهو يمسك بديوان مجنون ليلى ويردد بصوت عال:
أراني إذا صليت يممت نحوها
بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
فجأة نزلت من عينيه دمعة، فسيل الذكريات سيغرقه في مجراه العميق، رجع مسرعا إلى السيارة محاولا غض البصر عن أي شيء يحيط به، وفي طريقه رأى أمامه شجرة الجوافة الصامدة منذ سنين عديدة، تذكر حين ترك الأسرة بعد الغداء الدسم واستجاب لطمعه الطفولي، فذهب قبل إخوته ليقطف ثمارها وصعد إلى أعلى أغصانها، وما هي سوى لحظات حتى سقط ليفقد الوعي لدقائق، ابتسم وأغلق باب الحقل وفتح باب سيارته، وقبل أن يتحرك كان قبالته بيت عمته الراحلة راضية، تلك الطيبة التي مات كل أبنائها ثم مات زوجها، تذكر حين زارها في المشفى وهي على سرير الموت: -
- عمتي عمتي أنا أيمن··
- (تفتح عينها بصعوبة وأنين الألم يزاحم كلماتها) أيمن؟
- نعم يا عمتي الحبيبة أنا أيمن
- ولدي أيمن أظن أن الرحيل قد حان ولوجه، فاعلم بأني صافية النفس تجاهك وراضية عنك وعن إخوتك، كم أنا مشتاقة لوالدك (تجري دموعها)
- (بصوت متحشرج ضعيف) أرجوك عمتي لا تقولي هذا فستعودين معافاة كما كنت مرة أخرى بل وأفضل من السابق·
تذكر حين ينام معها، حيث رائحة غرفتها ولباسها له مذاق مختلف عن سائر العطور، لم يستطع العطارون أن يصنعوا مثله، كان يستيقظ مفزوعا فصوتها يمزق أسداف الظلمة:
- لا تذهبوا·· لا تذهبوا
يا للمسكينة فأصوات أبنائها الذين رحلوا وصورهم لم تفارق ذكراها حتى في منامها، رغم مرور السنين الطوال، تحرك أيمن بسيارته مسرعا وذكرى المكان تلاحقه بكل تفاصيلها أينما قلب بصره، نظر إلى الورقة التي يحملها وقد لفها حول جواز سفره وأخذ يقلبها كمن يبحث عمن يواسيه ويخفف بعض آلام الذكرى·
على أطراف القرية استوقفه تل الرمل الذي كان يجمع عليه في كل ليلة أبناء قريته ليعلمهم فنون التدخين، تذكر حين أخبرهم سنطلق على هذا المكان اسما حركيا لجذب الجمهور فيضحك الجميع: -
- وماذا نسميه يا أبا الأسماء؟ (أحدهم)
- سنسميه وكر المودة
يضحك الجميع ويعجبون بهذا الإسم اللطيف الذي سينتشر في آفاق القرية، أخذ يتذكر الكثير من الأسماء التي أدمنت التدخين والتمرد معه على المجتمع بفضل وكر المودة·
ابتعد قليلا عن وسط القرية وكاد أن يصل إلى طرفها الغربي، حيث المقبرة الصغيرة، توقف ينظر إلى القبور الناتئة الحزينة وأخذ يشير بيديه كمن يسلم على عزيز، ثم بدأ يتمتم بحديث مع نفسه ويخفض رأسه انحناء كمن يقدم قرابين الولاء على مذبح المحبة، أخذ ينظر إلى القبور المتناثرة طويلا وتذكر أحبابه الذين يرقدون هناك، استمر بعدها في طريقه ثم اتجه شرقا إلى العاصمة مسقط، لكنه بذلك قد دار دورة كاملة حول القرية، وفجأة وقف يتأمل تلك المقبرة الكبيرة من جهة الشرق، تذكر حين كان يجتمع برفاقه لشرب الويسكي، الإيرلندي فالمقبرة محاطة بجدار مرتفع لا يراهم أحد، وتلفها أشجار السمر المعمرة، كان يتفنن في تعليمهم الخلطات التي تصاحب الكأس والمقادير المناسبة مع شراب الشعير، ثم يأخذ يناديهم هلموا معشر المشردين، تذكر حين كان يقول لهم (لو أن أصحاب هؤلاء القبور يخرجون لأعطيناهم كأسا، ورغم ذلك فهم يحسدوننا على هذه الزجاجة الفاتنة، لكنا لن نكون كرماء معهم) يضحك الجميع والانتشاء باد على وجوههم، تحرك بسيارته مسرعا فكل قطعة من ذلك التراب تذكره بحدث ومواقف قد ندم عليها كثيراً·