أنت هنا

قراءة كتاب شعر النازحين من الاندلس الى مصر والشام في القرن السابع الهجري بين التأثر والتأثير

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
شعر النازحين من الاندلس الى مصر والشام في القرن السابع الهجري بين التأثر والتأثير

شعر النازحين من الاندلس الى مصر والشام في القرن السابع الهجري بين التأثر والتأثير

كتاب " شعر النازحين من الاندلس الى مصر والشام في القرن السابع الهجري بين التأثر والتأثير " ، تأليف د.آمنة البدوي ، والذي صدر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 9

د- الظروف الاقتصادية والعلمية

1- تنوع الزراعات والصناعات واتساع التجارة والثراء:

وصف الوضع الاقتصادي في مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك بالانتعاش نظراً لتوافر الأسس الاقتصادية من تنوع زراعات، ووفرة إنتاج، وقيام صناعات مختلفة، وقد هيأت هذه الظروف لتجارة رائجة، كان لها تأثير في اتخاذ الأندلسيين لكل من مصر والشام دار إقامة، لأن هذه البلاد تشكل مصدر رزق للكثير منهم.

فقد عرفت الشام بزكاء منابتها، واعتدال هوائها، وجودة مناخها، وملاءمته لطبائع الثمار كلها([202])، حيث كانت أرضها مصدراً للحبوب والبقول على اختلاف أنواعها، والفواكه المتنوعة كالموز والبرتقال التفاح والرمان والعنب، كما يجود في أرضها القطن والفستق والقنب والكتان والحرير والنيل والدخان وقصب السكر، وتصلح مراعيها لتربية ضروب الماشية([203]).

وقد برع الشاميون في استغلال أراضيهم بذكائهم وبُعد نظرهم في توطين النباتات الآسيوية والإفريقية فيها([204]).

لا شك أن توافر العديد من الموارد الزراعية الأولية والموارد المستخرجة من الأرض، وفر لقيام صناعات عديدة أشهرها الغزل، والحياكة والنساجة والنجارة والدباغة وصناعة الجلد والصدف والرخام والسجاد والحصير وغيرها([205]).

لم يقصر دور مصر عن الشام في التقدم الاقتصادي، نظراً لتوافر عوامل الزراعة الناجحة، من تنوع أقاليم وأراضٍ وزراعات، فأراضي مصر عدة أصناف بعضها يجود بالقمح والشعير، ويُنتج بعضها البطّيخ واللّوبيا، ويزرع الباذنجان والمشمش والخوخ في بعضها الآخر وهكذا([206])، وقد كان هذا التنوع الزراعي أساساً لصناعات عديدة كصناعة المنسوجات المتنوعة، وصناعة السكر والصابون التي تكثر في الفسطاط([207]). وقد طبقت في مصر النظم الاقتصادية المتعلقة بالزراعة والصناعة بمستوى عالٍ من الدقة([208])، مما وفر لاقتصادها النجاح والتميز.

وقد تميزت الأسواق في كل من مصر والشام بالضخامة وتنوع ما يعرض فيها، ويصف ابن جبير ما وصلت إليه أسواق دمشق من الارتقاء حين مرّ بها بقوله: «من أحفل الأسواق وأحسنها انتظاماً، وأبدعها وصفاً ... وهي مرتفعات كأنها الفناديق، مسقفة كلها بأبواب حديد، كأنها أبواب القصور، كغيرها من أسواق الشام»([209]).

وكانت هناك سوق خاصة لكل سلعة، مثل سوق الأبارين، وسوق النحاسين، وسوق الرطابين، بحيث تعرف أنواع المهن التي امتهنوها من خلال أسماء أسواقهم([210]).

وعرضت في هذه الأسواق في الشام ومصر الثياب والمنسوجات التي أبهرت الصليبيين، فأقبلوا على شرائها وتوريدها إلى أوروبا، كما أمَّ هذه الأسواق الكثير من التجار، ومنها انطلقت القوافل المحملة بالديباج والأقمشة مختلفة الأنواع([211]).

شكلت مدن الشام محطات تجارية بالغة الأهمية بين الشرق والغرب، إذ كانت ثرواتها موضع اهتمام تجار الفرنجة بصفة عامة، وتجار البندقية بصفة خاصة([212])، وقد أدى إعطاء صلاح الدين تسهيلات لتجار البندقية وجنوة وبيزة، إلى وجود تنافس قوي بين تلك المدن، كان له أثر بيِّن في تنشيط حركة التجارة، إذ كانت موانئ ساحل الشام مسرحاً للصراع بين هذه الجاليات، لأسباب تتعلق بالمسائل التجارية والكسب([213]).

وكان موقع مصر المتميز على البحر المتوسط الذي يصل منذ القديم بين الشرق والغرب، من العوامل التي ساعدتها على التحكم في مياه البحر المتوسط وجزره وسواحله، والمساهمة في تجارة المشرق بدور كبير، لكثرة قواعدها وطول سواحلها([214])، ولم تنقطع حركات القوافل التجارية من مصر إلى دمشق، ومن دمشق إلى عكا([215])، إذ كانت عكا أعظم مرفأ بين الموانئ، وقاعدة للتجار ومرسى للسفن، وكان اتصال أوروبا بها أكثر من اتصالها بسواها([216])، وانفردت الشام ببعض المنتوجات التي كانت تحمل إلى الديار المصرية، مثل قصب الذهب، وقمر الدين من المشمش، والقنب، والقراصيا([217])، وحمل الزيت والخروب من نابلس إلى مصر، كما حمل إليها التين والزبيب من صيدا، والفواكه من بيروت([218]).

ومما زاد من أهمية التجارة، اعتماد المدن الصناعية في مصر والشام على بعض السلع المستوردة اللازمة لصناعتها، فشكلت بعض مدن مصر والشام مراكز تجارية لهذه السلع، ومن أشهرها: الفسطاط، والإسكندرية ودمياط وعَيْذاب، وطرابلس وصيدا وصُور، وبعض المدن الداخلية في الشام([219]). وقد وصف التجيبي أحد هذه المراكز، وهو مدينة قوص إذ يقول: «هي مدينة عظيمة، آهِلَةٌ عامرة، من أكبَر المدنِ المشهورة التي رأيناها بهذا الصعيد، من أحفلها بناءً، وهي أرتب من مصر وأتقن، غزيرة المرافق، كثيرة الخلائق، يجتمع فيها الصادر والوارد من التجار، الواصلين من اليمن والهند والحبشة ... ومن المصريين والإسكندريين، ويوجد فيها من بضائع الهند ما لا يكاد يوجد في غيرها من المدن العظام»([220]).

ومما ساعد في تقدم التجارة أيضاً، حماية الأيوبيين والمماليك لمصالحها الخارجية، وخاصة الارتباط بالأسواق البعيدة مثل الهند والصين شرقاً، ومناطق القوقاز والقرم شمالاً، والمدن التجارية الإيطالية والفرنسية والإسبانية غرباً([221]).

فقد استغلت دولة المماليك فرصة أمن الملاحة والتجارة في شمال البحر الأحمر وجنبه، وعملت جاهدة على جذبها إليها، يؤكد ذلك المنشور الذي أذاعه السلطان المنصور قلاوون سنة (689هـ) على التجار الذين يصلون إلى مصر من الصين والهند والسند واليمن والعراق وبلاد الروم إذ يقول: «وَمَن يُؤْثِرُ الوُرودَ إلى ممالكنا إن أقام أو تردد - النقلة له في ذلك الخير والخيرة ويحضر إلى بلاد لا يحتاج صاحبها إلى مِيرة، ولا إلى ذَخِيرة، لأنها في الدنيا جَنَّةُ عَدْن لمَنْ قَطَن، وَمَسْلاةٌ لمن تَغَرَّبَ عن الوَطَن، ونُزْهَةٌ لا عليها بَصَر، والمُقيمُ بها في ربيعٍ دائِم، وخيرٍ مُلازِم، ويكفيها أنَّ مِنْ بعضِ أوصافها، أنَّها شامةُ اللهِ في أرضه ... فمن وقف على مرسومنا هذا من التجار المقيمين باليَمَن والهند والصين والسند وغيرهم، فليأخُذْ الأهُبَةَ في الارتحالِ إليها، والقدوم عليها ليجد الفعال من المقال أكبر، ويرى إحساناً يقابل في الوفاء بهذه العهود بالأكثر ويحلُّ منها في بلدةٍ طيبةٍ وربٍّ غفور ... وفي السلامةِ في النَّفسِ والمال، وسعادةٍ تُجلّي الأحوال، وتموِّلُ الأموال»([222]).

2- التقدم العلمي والفكري والمستوى الحضاري وتوفيره فرص عمل للمرتحلين:

بلغت الدولة في مصر والشام مستوى حضارياً رفيعاً في النواحي العلمية والعمرانية والاجتماعية، حيث أدى الثراء الاقتصادي الناتج عن نشاط التجارة، إلى الاهتمام بهذه المنشآت العلمية والحضارية كالمساجد والمدارس ودور الحديث، والفنادق والحمامات. وكان لهذه المنشآت أثرها في استقطاب الأندلسيين المرتحلين من علماء متخصصين، وصوفية زاهدين، وباحثين عن مصدر رزق وعيش.

حظيت كل من دمشق والقاهرة بتنوع العلوم، وكثرة المشتغلين بها، بعد هجرة كثير من علماء العراق إليهما، لما خرجت بغداد على يد التتار سنة (656هـ) وقد كثر على إثر ذلك العلماء المتخصصون، وتعينت المسائل العلمية، وتنوعت العلوم، وتوفر المشتغلون بها، ونبغ من الشام طبقة عالية، عُدّت تآليفهم من الأمهات في خزانة كتب الأمة العربية([223])، وكانت دمشق مركزاً علمياً للشرق كله، وسبقت القاهرة في هذا المضمار، وأقيمت فيها المدارس، واستحضر العلماء وقصدها الطلبة، وتدفق إليها الكثير من المغاربة يعملون ويدرسون ويجاهدون ويتاجرون([224]). وقد شهد هذا العصر بناءً نشطاً للمدارس ودور العلم المتخصصة في مختلف العلوم، ويتضح ذلك من قول ابن بطوطة: «وأهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجد والزوايا والمدارس»([225]).

بدأ الاهتمام بإنشاء دور العلم منذ عصر نور الدين، فقد بنى المدارس والربط والخانقاهات، ووقف عليها الأوقاف، وبنى المدارس الجليلة للحنفية والشافعية، منها المدارس النورية في كل من دمشق وحمص وحلب وحماة، وعمر المساجد الكثيرة والربط للصوفية([226])، وأنشأ أول دار حديث بدمشق وهي الدار النورية([227]).

سار صلاح الدين والأيوبيون من بعده على هذا النهج في إنشاء دور العلم، ووقفوا عليها الأوقاف، فقد أعاد صلاح الدين كنيسة صَنْدحَنَّة في القدس مدرسة للشافعية وهي المدرسة الصلاحية ووقف عليها الأوقاف، مفوضاً التدريس فيها لبهاء الدين بن شداد([228]). ووقف الملك المظفر عيسى بن أيوب على المدرسة المعظمية الحنفية سنة 606هـ، قرى ومزارع([229]) وبنى الملك الكامل المدرسة الكاملية بمصر، التي كملت عمارتها سنة (621هـ)، وجعل شيخها أحد المرتحلين الأندلسيين، وهو أبو الخطاب ابن دحية، ووليها بعده أخوه([230]). وبنى الملك الصالح نجم الدين أيوب في القاهرة أربع مدارس للمذاهب الأربعة سنة (639هـ) منها المدرسة الكاملية التي عدت من أجمل مدارس القاهرة([231]) كما اهتم المماليك بإنشاء المدارس، فقد بنى الظاهر بيبرس المدرسة الظاهرية القديمة لتدريس الحنفية والشافعية وإقراء القراءات([232]). وبنيت الجوامع وما فيها من حلقات العلم، ووقفت عليها الأوقاف، ولعل أشهرها الجامع الأموي بدمشق وحلقاته وشيوخه والأسواق التابعة له ومشاهده التي خصص لكل مشهد منها أوقاف معينة من بساتين وأراضٍ([233])، كما عين لكل مسجد يستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقاه أوقاف تقوم بها وبساكنيها، حتى إن البلد تكاد الأوقاف تستغرق كل ما فيه([234]). ومن أشهر المساجد في مصر المسجد الكبير المنسوب إلى أبي العباس ابن طولون، وقد جعل مأوى للغرباء من المغاربة يسكنونه ويحلقون فيه، وأجريت عليهم أرزاق واسعة، وقد جعلت لهم الحرية في تطبيق أحكامهم، من قِبَل أحد المختصين منهم، وبذلك لا يكون لأحد يد عليهم. وقد كثرت المساجد والمدارس بصورة تتعدى الوصف، ففي الإسكندرية وحدها شيد اثنا عشر ألف مسجد، إلى غير ذلك من المعاهد والمفاخر([235]).

لم يقتصر التدريس في دور العلم على العلوم الدينية، بل درست علوم العربية، وازدهرت العلوم الحكمية وأصول المنطق([236]). وقد انفرد القرن السابع الهجري بإنشاء ثلاث مدارس للطب ومدرسة للهندسة في دمشق، وكان في هذه العاصمة أعظم جامعة إسلامية اشتملت على العلوم الدينية والدنيوية، لا تقصر عن القاهرة بأزهرها، ولا عن بغداد بمدرستها النظامية([237]).

ولعل توفر الأسباب المعيشية للمتعلمين، جعلهم يقبلون على العلم، وجعل إنشاء المدارس والقيام على شؤون طلابها من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى كما يقول البدري عن أهل الشام: «وتقرب إلى الله تعالى أهلُها ببناء المدارس، رَغْبةً في جِوار المُجرَّد الفقير البائس، ورتّبوا له من الخبزِ واللَّحْمِ الطَّعام، والزيت والحلو والصابون والمصروف في كل شهر على الدّوام، فيجلس الطالب في شبّاكها ينظر إلى الماء والخضرة والوجهِ الحسن، فكيف لا ينبعثُ إلى طلب العلم ويتحرك من فهمه ما سكن»([238])، ولعل هذا من العوامل الرئيسة في جعل هذه البلاد مقصداً للكثير من الأندلسيين، حيث غدت منهلاً خصباً للحصول على أسباب الحياة ووسائل العيش، ولعل الرحالة الأندلسيين خير من صور بلاد الشام من ناحية توافر المصادر المعيشية، فقد زار ابن جبير العديد من مناطق الشام، وصورها بقوله: «وكلُّ من وفَّقه اللهُ بهذه الجِهات من الغُرَباء للانفراد، يلتزِمُ إن أحبّ ضيعةً من الضياع فيكون فيها طيب العيش ناعم البال، وينهالُ الخيرُ عليه من أهل الضيعة، ويلتزمُ الإمامةَ أو التعليم أو ما شاء، ومتى سَئِم المقام خرج إلى ضيعةٍ أخرى...»([239]).

وقد كانت هذه دعوة صادقة للأندلسيين بالتوجه إلى الشام، والتفرغ لطلب العلم، لوجود أسباب المعيشة لطالبيه دون عناء يصرفهم عن طلبه، يقول: «فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخُل أيُّها المجتهدُ بسلام، وتغنَّم الفراغ والانفراد، قبل عَلَقِ الأهلِ والأولاد ... ولو لم يكن بهذه البلاد المشرقيَّة كلِّها إلا مبادرةَ أهلِها لإكرامِ الغرباء، وإيثارِ الفقراء لا سيما أهل باديتها، فإنك تجد من يبادِرُ إلى كرم الضيف عجباً، كفى بذلك شرفاً لهم»([240]). وهذا ما يؤكده ابن بطوط حينما زار دمشق إذ يقول: «... وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق، لا بد أن يتأتى له وجه من المعاش من إمامة مسجد، أو قراءة بمدرسة، أو ملازمة مسجد يجيء إليه فيه رزقه، أو قراءة قرآن...» ([241]).

كما كثرت الربط والزوايا والخانقاهات، فقد وقف صلاح الدين الأوقاف على أول خانقاه عملت بمصر، وهي خانقاه سعيد السعداء ونعت شيخها بـ «شيخ الشيوخ»([242])، ثم بنى الناصر محمد بن قلاوون خانقاه سَرْياقوس، ورتَّب للصوفية والفقراء طعاماً وخبزاً ولحماً([243])، ووقف الشيخ عمر بن عبدالله المغربي زاوية على فقراء المغاربة بأعلى حارتهم في القدس، وأنشأها من ماله([244])، وقد كان نور الدين قد عيّن لهم زاوية بجامع دمشق وأوقف عليها أوقافاً كثيرة، تغل خمسمائة دينار في العام([245]). وكانت كل زاوية بمصر لطائفة معينة من القُرّاء وكان لكل زاوية شيخ وحارس، وطعام أهل الزوايا مرتان في اليوم، ولهم كسوة الشتاء وكسوة الصيف([246]) وأنشئت الربط للصوفية وكان صلاح الدين قد وقف الأوقاف على الدار المعروفة بدار البطرك، وجعلها رباطاً للواردين من سائر البلاد الشاسعة، وللصوفية بحيث يكون شيخٌ منهم، ناظراً عليهم، يصرف عليهم من ريع الجهات الموقوفة([247]).

وقد تولى التدريس والإقراء في هذه المنشآت العلمية الكثير من الأندلسيين الذين كان لهم دور في الارتقاء بالحركة العلمية، وبلغوا شأواً بعيداً في هذا المجال، فلم يكتف هؤلاء العلماء بأخذ العلم وتلقيه وسماعه، بل شاركوا في التدريس، وترأسوا حلقة الدرس، ومنهم المحدث أحمد بن تميم بن هشام الذي خرج من الأندلس إلى المشرق، وبقي يعمل في ميدان الحديث في دمشق حتى وفاته سنة (625هـ) ([248]). كما يعد محمد بن يوسف البرزالي من رحال الحديث المتميزين، إذ خرج من إشبيلية وزار عدة مدن إسلامية، وسمع بالحجاز ومصر والعراق وخراسان ودمشق وقد استقر في دمشق يقرئ الحديث وأفاد الكثيرين إلى أن توفي سنة 636هـ([249]). كما تميز المحدث قاسم بن محمد بن يوسف البرزالي الشافعي حفيد زكي الدين الذي خرج من إشبيلية في أواخر القرن السابع الهجري، وسمع من عدة شيوخ في الحجاز ومصر ودمشق والقدس وحلب وحماة والإسكندرية، وأجيز من الكثيرين، وانتهى به المطاف إلى دمشق، فأقام فيها وتولى مشيخة دار الحديث في المدرسة الأشرفية([250]).

ومن الأئمة المغاربة بمدرسة الكلاسة الملتصقة بالجامع الأموي التي جددها صلاح الدين الأيوبي، وخصصت للمالكية، أبو الحسن إسماعيل بن أبي جعفر القرطبي وكان قارئاً محدثاً، توفي سنة (631هـ) ([251]). كما عمل أبو الحسن المغربي مؤدباً في المدرسة العادلية بدمشق حتى وفاته سنة (626هـ) ([252]).

ومن المنشآت الحضارية البيمارستانات التي عدها ابن جبير مفخراً من مفاخر الإسلام([253])، ووصف ابن جبير بيمارستان السلطان صلاح الدين في القاهرة بأنه «قصرٌ من القصور الرائعة حُسْناً واتساعاً»([254])، ولهذا البيمارستان قيّم من أهل المعرفة، لديه خزائن العقاقير والأدوية بمختلف أنواعها، وفيه قسم خاص للنساء([255]). وفي دمشق بيمارستان كان قد بناه نور الدين ووقف عليه الأوقاف، وهو وقف على الفقراء والمساكين، ولا يمنع منه الأغنياء إن لم يجدوا دواءً لعللهم إلا فيه([256])، كما جدد البيمارستان في حلب، ووقف عليه الأوقاف([257])، وقد بلغ هذا البيمارستان درجة من التنظيم زمن صلاح الدين الأيوبي([258]).

خدم في هذه البيمارستانات كبار الأطباء، مثل مهذب الدين الدُّخوار([259]) شيخ الأطباء، ونجم الدين ابن اللبّودي([260]) الذي أظهر قدرة في العلوم الطبية، وخدم بعض الأطباء الأندلسيين في هذه البيمارستانات، ولعل أشهرهم ابن البيطار ضياء الدين عبدالله ابن أحمد المالقي صاحب كتاب الأدوية المفردة، والذي تحققت عنده معرفة النبات وصفاته وقد خدم في البيمارستان الذي أنشأه العادل([261])، كما كان الملك الكامل يعتمد عليه في الكثير من الشؤون الطبية([262])، وعمل عبدالمنعم الجِلْياني الذي قدم من جِلْيانَة إحدى مناطق غرناطة في البيمارستان السلطاني أيام صلاح الدين حتى وفاته سنة (603هـ) ([263]).

كما كثرت الحمامات، وقد ذكر أن في الإسكندرية وحدها أربعة آلاف حمام([264]) كما أن الإربلي حينما زار دمشق أعجبه من خصائصها حسن العمائر وكثرة الحمامات، وحسن تقسيم المياه التي تدخل إليها([265]).

وقد كان من اتساع اعتناء صلاح الدين بالمغاربة تعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا لذلك، وتولى المغاربة الحمامات في عكا زمن صلاح الدين، فقد «كان في العسكر أكثر من ألف حمام...، وفي كل حمام يجتمع منهم اثنان أو ثلاثة، ويحفرون ذراعين فيطلع الماء، ويأخذون الطين فيعملون منه حوضاً وحائطاً ويستُرونه بحطب وحَصير، ويقْطعون حَطَباً من البساتين التي حولهم، ويُحَمّون الماء في قدور، وصار حماماً يغسل الرجلُ رأسَه بدرهم وأكثر»([266]).

وكان للمغاربة وجوه واسعة للعمل، بالإضافة إلى عملهم في الحمامات، فقد يكون الواحد منهم ناطوراً في بستان، أو حافظاً لأبواب داخلية، أو أميناً على طاحونة، أو كافلاً لصبيان يؤديهم إلى محاضِرِهم ويصْرِفُهُم إلى منازِلِهم، وقد كانوا يؤتمنون لأنهم قد عَلا لهم صيتٌ، وطارَ لهم ذكرٌ في أمانتِهِم([267]).

لقد أتاح المستوى العلمي والحضاري فرص العيش والعمل للمغاربة، الذين أقبلوا على المشرق لأنهم وجدوا فيه الأمن والانفتاح والرقي والحرص على الرعاية الاجتماعية.

كونت مثل تلك الظروف استعداداً نفسياً للاتجاه إلى المشرق منذ فترة سبقت القرن السابع الهجري الذي تغيرت فيه أحوال الأندلس بصورة واضحة، وإن كانت الأحداث التي سبقت الاجتياح تنذر بمصير الأندلس، إلا أن نية الارتحال إلى المشرق موجودة عند أهل الأندلس لاعتبارات وظروف وقفنا عندها، ويشير ابن بقي الطليطلي (- ت 540هـ) إلى ذلك بقوله:

وَلِي هِمَمٌ سَتَقْذِفُ بي بِلاداً

نَأَتْ إمّا العِراقَ أو الشَّآما

وأَلْحقُ بالأعاريبِ اعتِلاءً

بِهِمْ وأجيدُ مَدْحَهُمُ اهتِماما([268])

ولعل هذا الحنين للاتصال بالأعاريب في المشرق ومدحهم، يؤكد مدى الارتباط الوجداني والتواصل بين المشارقة والمغاربة، وقد وردت إشارة بذلك لتاج الدين السرخسي([269]) من المشرق في رحلة مفقودة له، إذ يقول: «إني وإن كنتُ خُراسانِيّ الطينة، فإني شاميُّ المدينة، وإن كانت العُمومةُ من المشرق، فإن الخُؤولَة من المغرب»([270]).

فلم يقتصر هذا الإحساس بالارتباط والتواصل على الأندلسيين وحدهم أو على المشارقة وحدهم كما تبيّنا، بل هو اتجاه مشترك، يؤكده التواصل العلمي والفكري والأدبي والاجتماعي، الذي سنتبينه في دراسة موضوعات الشعر، وما تحمله من أثر هذا التواصل في مناحٍ شتى.

الصفحات