كتاب " تاريخ الفكر الاجتماعي " ، تأليف نبيل عبد الحميد عبد الجبار ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ووما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب تاريخ الفكر الاجتماعي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
التفكير في الشؤون الاجتماعية في ظل حضارة وادي الرافدين
سنحاول، فيما يلي، التعرف على ما تخلل المجتمع القديم، الذي قام في ظل حضارة وادي الرافدين، من مظاهر اجتماعية، وهذه المظاهر الاجتماعية بقدر ما تعكس لنا الممارسات والطقوس والثقافة والتقاليد التي تعارف عليها، وعمد إلى إتباعها، أبناء المجتمع الرافديني، فإنها، بالقدر نفسه، تعكس لنا، إلى حد ما، ما كان يجول في عقول أفراد ذلك المجتمع من تصورات، وميول، وأهواء، لا ترقى بالتأكيد إلى مستوى (الفكر) النظري، إلا أنها، على أية حال، قد مرت بأذهان القائمين بها قبل أن تستحيل إلى ممارسات وطقوس وفعاليات وأنشطة عملية.
وسنحاول التعرف على ذلك من خلال الوقوف عند أثر العقيدة الدينية في تكوين المجتمع الرافديني، وأثر نظام الحكم في إضفاء طابع التدرج على مكونات ذلك المجتمع، واستعراض بعض التصورات عن الأسرة وكيفية تكونها، وأخيراً التنويه ببعض التشريعات الاجتماعية السائدة في ذلك المجتمع.
تأثير العقيدة الدينية على تكوين المجتمع ونشاطات أفراده:
تميزت بلاد الرافدين بأنها كانت تشهد، على الدوام، إيقاعاً كونياً قاسياً، مضطرباً، وعنيفاً، فنهرا دجلة والفرات غالباً ما يفيضان على غير انتظام، فيحطمان السدود التي أقامها الإنسان لدرء أخطارهما، ويغرقان مساكنه ومزارعه. وعلاوة على ذلك، فإن هذه البلاد تشهد على الدوام هبوب رياح لاهبة تخنق المرء بغبارها. كما تشهد البلاد، بين آونة وأخرى، هطول أمطار غزيرة متواصلة تحوّل الصلب من الأرض إلى بحرٍ من الطين، تعرقل حركة الإنسان، وتعوق انتقاله.
إن عدم انتظام ظواهر الطبيعة هذه، واضطرابها، قد انعكس تأثيره على (وعي) الإنسان الذي كان يعيش في بلاد الرافدين قديماً، فقد بدت (الطبيعة) بالنسبة إليه وكأنها تبطش به، وتتحكم بمشيئته وتتدخل في تحديد مصيره، الأمر الذي جعل الإنسان (الرافديني) يشعر بالتفاهة والضعف، وبالتالي بالخوف، إزاء قوى طبيعية هائلة تتلاعب به وبمصيره.
وكان رد الفعل الذي أبداه الإنسان الذي عاش في بلاد الرافدين، والتي باتت تعرف اليوم باسم (العراق) – وسأنعته، تبعاً لذلك، من الآن فصاعداً بـ (العراق القديم) – أقول: كان رد الفعل الذي أبداه العراق القديم إزاء ذلك هو اللجوء إلى (التدين).
والواقع، أن إيغال العراقي القديم في الاعتقاد الديني، يمكن النظر إليه على أنه نتيجة طبيعية جداً، وذلك لأن (الدين) كان يطرح نفسه، في حدود المستوى الذي كان عليه التطور المادي، في وادي الرافدين قديماً، كضرورة لازمة. إذ أن (الدين) كان قد مثّل آنذاك انعكاساً خيالياً، داخل الوعي الاجتماعي، لعلاقات أفراد البشر مع الطبيعة. ففي البدايات الأولى لتأريخ المجتمعات البشرية، كانت قوى الطبيعة هي المتحكمة بأفراد البشر ومصائرهم، وبقدر ما يتعلق الأمر بالمجتمع الرافديني، فإن عقيدته الدينية، في أطوارها الأولى المبكرة جداً، قد قامت على عبادة قوى الطبيعة، التي ما لبث أن عمد، فيما بعد، إلى (تجسيدها) على هيئة (آلهة).
فلقد بدا للإنسان العراقي القديم أن كل ما يتخلل الطبيعة من ظواهر ومظاهر، إنما تسيطر عليها وتتحكم بها (قوى خفية هائلة)، وبما أن الظواهر الطبيعية لها انعكاساتها وتأثيراتها السلبية والإيجابية على حياة أفراد البشر، فإنه من الطبيعي أن يخشاها الإنسان، ويلتمس رضاها، فمصيره واستمرار وجوده مرتهن بإرادتها، فإن استمرار وجود الإنسان البدائي، الذي كان يعيش على جمع الثمار والصيد، متوقف على مدى (سخاء) الطبيعة وقواها أو) (شحها). والمزارع البدائي كان يرى هو الآخر أن ثمار عمله خاضعة للعوامل المناخية، مثل المطر والجفاف، والحرارة، والبرودة.
عندما عمد الإنسان البدائي، في وقت لاحق، إلى (تجسيد) تلك (القوى الطبيعية الخفية الهائلة) على هيئة (آلهة)، فإنه تصورها على شكل البشر، بل إنه اعتقد أنها، شأنها شأن البشر، تتشكل من جنسين: ذكر وأنثى. ومن ثم فقد كان منطقياً أن يغزو كل مظاهر الخصب والتكاثر في الطبيعة، بما في ذلك تكاثر الإنسان والحيوان والنبات، إلى قوى الخصب الإلهية المتمثلة بالآلهة – الأم (عشتار)، وبإله الخصب (تموزي).
ولقد ظل العراقي القديم شاعراً بهذه العلاقة الوثيقة بالطبيعة، حتى بعد أن قامت المدن بشكلها العامر لتحتضن حشوداً كبيرة من أفراد البشر، إذ أن سكان المدن لم تنقطع صلتهم بالأرض، بحكم كونهم يعتاشون من الحقول التي تحيط بهم. وبالتالي، فقد ظل العراقي القديم يجهد من أجل ضمان استمرار هذا الترابط بينه وبين الطبيعة، وكانت الاحتفالات الدينية الأداة المؤدية إلى ذلك.
فقد كانت حياة أفراد المجتمع في بلاد الرافدين قديماً منظمة حسب تقويم يلائم بين تطور المجتمع خلال السنة، وحركة الطبيعة عبر تتابع فصولها، وكانت تكرس بضعة أيام الشهر للاحتفال بأحداث الطبيعة عبر حركتها هذه. غير أن الحدث النوعي الأعظم في كل مدينة، الذي كان يستمر نحو اثني عشر يوماً، كان الاحتفال بـ (رأس السنة الجديدة) في وقت تكون (حيوية) الطبيعة فيه قد هبطت إلى مستواها (الأدنى) وحيث يتوقف كل شيء عن الخروج من فترة الركود هذه إلى الحيوية الجديدة.
إن أفراد المجتمع الرافديني يستحضرون في أذهانهم في هذا الوقت، ما ترسخ في أعماقهم عن طغيان الطبيعة وجبروت ظواهرها واضطرابها، فيتوجهون إلى السماء ملتمسين الرحمة من خلال (سخاء) الطبيعة معهم، وتجاوب ظواهرها مع آمالهم وتطلعاتهم (بدلاً من (شح) الطبيعة وعنف ظواهرها).
إن المجتمع المرتبك إلى الحد الأقصى من حياته، لا يستطيع أن يبقى سلبياً بانتظار الصراع بين قوى (الموت) و (الحياة) في الطبيعة، فكان يُسهم بحساسية عاطفية عنيفة، من خلال الطقوس والمراسيم، في صراع الطبيعة هذا. لأنه على نتيجة هذا الصراع تتوقف حياته، ومصيره.
وكما تختفي قوى الموت وأسبابه مع انتهاء فصل الشتاء وتنتصر قوى الحياة والانبعاث والتجدد مع بدء فصل الربيع، فإن الإنسان العراقي القديم كان يودع أخطاءه وإخفاقاته ويأسه، متطلعاً إلى آمال ونجاحات جديدة يتطلع إلى أن تغمره مع حلول السنة الجديدة، لقد جعل الإنسان العراقي القديم من طقوس (رأس السنة) مناسبة للاحتفال بتجديد الحياة بكل تفاصيلها ومظاهرها، وكأن كل سنة تشهد عملية خلق جديد للكون.