كتاب " دور النخبة القانونية في تأسيس الدولة العراقية " ، تأليف عبد الحسين الرفيعي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب دور النخبة القانونية في تأسيس الدولة العراقية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

دور النخبة القانونية في تأسيس الدولة العراقية
التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العراق منذ أواسط القرن التاسع عشر وتأثيره في تكون النخبة القانونية وتأسيس مدرسة الحقوق
يحدثنا التاريخ عن نهايات الدولة العثمانية، وما شهده القرن التاسع عشر من بروز حالات التردي الداخلية، وازدياد الخطر الخارجي المترافق مع هذا التردي، والمتمثل في محاولات الدول الأوربية تحكيم هذا الكيان العثماني، والإجهاز عليه كل من جهته، ووفق تحالفات مؤقتة أو دائمة مصلحية تهدف للوصول إلى تقسيم هذه الدولة الواسعة الأرجاء، والاستيلاء على أراضيها.
لقد حقق التدخل الخارجي الكثير، من خلال ضغوطه وتحينه للفرص ومحاولاته التي كانت تعني الهشيم لهذه الدولة، وهي ترى بأم عينيها كيانها ينهدم يوماً بعد يوم، من دون إرادة سليمة وستراتيج قادر على لم الشمل، وحسم الموقف لصالحها، وفهم الواقع ومتطلبات الشعوب في ظل الوقائع الماثلة، لقد بدأ العراق اتصاله بحضارة الغرب الحديثة وأفكارها ومعالمها، منذ عهد داود باشا الذي حاول، وكذلك خلفاؤه، إن يدخل إلى البلاد بعض المخترعات والنظم الأوربية، ففي العقد السابع من القرن التاسع عشر، ظهرت البواخر النهرية في العراق، وامتدت إليه خطوط التلغراف، فكانت تلك أموراً عجيبة في نظر الناس حاروا في تعليلها([15])، وكانت لهم بمثابة هزة فكرية فتحت أذهانهم نحو أفاق لم يكونوا يحلمون بها من قبل، وفي العام (1869) افتتحت قناة السويس، فكانت أهميتها الاقتصادية للعراق كبيرة، لأنها قربت المسافة البحرية بين العراق وأوربا، ويسرت السفر ونقل البضائع بينهما تيسيراً كبيراً.
وفي السنة التي تم فيها افتتاح قناة السويس، أي في العام (1869)، تولى ولاية بغداد، رجل مصلح ذو ولع بالأعمار والتجديد، هو مدحت باشا، الذي لم يستمر عهده سوى ثلاث سنوات ونيف، غير أنه أحداث في العراق، وخاصة في بغداد (ما يشبه الثورة) حسب تعبير الوردي([16]).
كان العراق يمثل يومذاك (فراغاً اقتصادياً) بل وحتى سياسياً إلى حد كبير، ينطوي على طاقات كبيرة كافية مؤهلة للانطلاق والتغيير، وهذا هو الذي حدث بالتدريج في البداية، وبسرعة أكبر مع مرور الوقت، وذلك بفعل إفرازات الانقلاب الصناعي، وبغض النظر عن إرادة العثمانيين وتخلفهم، فقد بدأ العراق يندمج بالأسواق الرأسمالية العالمية منذ بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وجاء افتتاح قناة السويس في العام (1869) بمثابة قوة دفع مهمة أضفت على عوامل عملية الاندماج تلك بعداً جديداً.
وإذا (أخذنا جميع ظروف الزمان والمكان بنظر الاعتبار، يكون بوسعنا أن نقول، أن ما تحقق في ميدان التطور الصناعي والنقل منذ أواسط القرن التاسع عشر لم يكن شيئاً قليلاً، ثم إنه كان يؤشر تحولاً نوعياً بغض النظر عن كمه)، ونضيف إلى ذلك ونقول (أن العراقيين غدواً يرنون إلى أبعد بكثير مما تحقق ليضفي الأمر بعداً آخر على إبعاد حركة التحديث التي فرضت نفسها، كل ما سبق يعني أننا أصبحنا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أمام مجتمع جديد، واقتصاد جديد في العراق، والمجتمع الجديد مع الاقتصاد الجديد يفرضان في كل زمان ومكان، وفق قاعدة ثابتة، أفكار وأراء ومواقف جديدة تختلف جذرياً عما هو سائد وقديم، وتتخطاهما لتفرض نفسها مع قيمها على الساحة، وهذا بحد ذاته يعني تأريخاً جديداً في وقائعه وحوادثه وظواهره)، وإذا فضلنا قليلاً في الموضوع من أجل التوضيح، نرى بأن
(المجتمع العراقي عاش في تلك المرحلة مخاضاً فرضته التحولات والمهمات الجديدة، أن تطور التجارة وتوسعها، ودخول الآلة الحديثة في عملية الإنتاج لأول مرة، ثم الصراعات المتفاقمة التي نجمت عن مشكلة الأرض وقضايا أخرى كثيرة لا ضرورة لذكرها، تطلبت مثقفين غير تقليديين يفهمون القانون، ويعرفون اللغات، ويجيدون استخدام الآلة الحديثة والإشراف عليها وما إلى ذلك)، مما استوجب (ظهور المدارس الحديثة في العراق، منذ مطلع العقد الثامن من القرن التاسع عشر، أي بعد مرور حوالي قرن على ظهور التعليم الرسمي الحديث في أكثر أجزاء الإمبراطورية العثمانية تطوراً) ([17]).
لقد ظهرت فعلاً بوادر التغيير واضحة في أوضاع العراق الاجتماعية والاقتصادية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ففي المرحلة الجديدة (حقق النشاط الاقتصادي تقدماً ملموساً، وبدأ الخروج من الإنتاج الطبيعي وزيادة الإنتاج الزراعي من أجل التصدير)، وأدت هذه التحولات إلى (زيادة قيمة الأرض وتكون فئة من كبار ملاكي الأراضي في العراق)، إن هذا التحول في الإمكانات الاقتصادية بالنسبة لهؤلاء لم يرافقه تحول مواز في التفكير، وبدأ في تلك المرحلة يطرأ تحول في الاقتصاد الوطني، من اقتصاد قائم على أساس الاكتفاء الذاتي إلى اقتصاد قائم على أساس الربح، وظهرت البرجوازية التجارية، ولا سيما المرتبطة منها بالرأسمال الأجنبي.