كتاب " دور النخبة القانونية في تأسيس الدولة العراقية " ، تأليف عبد الحسين الرفيعي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب دور النخبة القانونية في تأسيس الدولة العراقية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

دور النخبة القانونية في تأسيس الدولة العراقية
وفي بداية حفل افتتاح (مدرسة الحقوق) ألقى وكيل المدرسة خطاباً موجزاً رحب فيه بالحضور، وأشاد بدور الوالي ناظم باشا الذي ارتجل بعده كلمة استعراض فيها الأوضاع الاجتماعية والإدارية في العراق، وركز بصورة خاصة على النهضة العلمية، وعلى ضرورة أن تتحول المدرسة إلى (ركن العدل المكين)، وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي ضمن الذين ألقوا كلمات بالمناسبة، وفي الختام ألقى محمود صبحي الدفتري، بوصفه أول طالب سجل في المدرسة، كلمة باسم زملائه أكد فيها على العلم وأهميته، وعلى تاريخ العراق، وماضيه التليد، وتعهد الجميع على البذل والسعي في مضمار الدراسة([35]).
ومنذ البداية اختير أفضل المدرسين المعروفين في ذلك العهد بسعة إطلاعهم وسمعتهم الطيبة للتدريس في (مدرسة الحقوق)، حيث بلغ تعدادهم في العام (1913) أحد عشر مدرساً([36])، منهم جميل صدقي الزهاوي، ومفتي بغداد يوسف العطا، وعارف السويدي، وحمدي الباججي، وحسن الباججي، ومحمد جودت، وإبراهيم شوقي، والشيخ نور الدين الشيرواني، وحكمت سليمان، ورشيد عالي الكيلاني([37]). ولمجرد توضيح المقصود هنا، يكفي أن نشير إلى أن ثلاثة من هؤلاء وهم حمدي الباججي وحكمت سليمان ورشيد عالي الكيلاني، قد اشغلوا في العهد الملكي منصب رئيس الوزراء، فضلاً عن عدد كبير من أهم الحقائب الوزارية في أوقات مختلفة، وأن الأقل شهرة من هؤلاء بين أوساطنا الثقافية، ونقصد به الشيخ نور الدين الشيرواني (1867-1942) كان قبل تعيينه في مدرسة الحقوق، معلماً معروفاً في مدارس كربلاء والبصرة الرشدية، وعضواً بمجلس المعارف ومديراً لدار المعلمين ببغداد والبصرة، وصاحب مؤلفات ([38]) في تاريخ الإسلام والفلسفة والمنطق وعلم الخلاف والأخلاق والتربية وغيرها، وهو أيضاً والد اللواء بهاء الدين نوري (1897-1960)، أحد ألمع وأثقف ضباط الجيش العراقي في مرحلة التأسيس، تقلد مناصب دبلوماسية رفيعة، وصاحب عدد كبير من المؤلفات والتراجم من اللغة الإنجليزية([39]).
لذا يبدو أمراً طبيعياً أن يحظى مدرسو (مدرسة الحقوق) بتقدير عال لدى الجميع، فلقد تحدثت (صدى بابل) عنهم بهذا الأسلوب: (تعين من جانب الولاية في مكتب الحقوق لتعليم المجلة للصف الأول وأصول الفقه للصف الرابع، حضرة وطنينا الخطير فيلسوف العراق زهاوي زاده جميل صدقي أفندي، ولتعليم صك الحقوق للصف الرابع حضرة واصف أفندي مدعي عموم الاستئناف، ولتدريس التجارة البرية رئيس التجارة فؤاد بك، ولتصرف الأراضي وأحكام الأوقات حضرة شوقي أفندي رئيس الحقوق، ولتعليم صد الجزاء والتجارة البحرية سويدي زادة عارف أفندي، وفق الله الجميع إلى ما فيه نفع أبناء الوطن) ([40]).
يعد تأسيس (مدرسة الحقوق) في بغداد خطوة مهمة في حياة العراقيين الثقافية والفكرية، فمن الثوابت أن رجال القضاء والقانون يرتبطون بقضايا الناس وهمومهم بصورة مباشرة أكثر من غيرهم، مما يدفعهم دوماً إلى خندق المظلومين والوطنيين، خصوصاً في ظروف الاضطهاد والاحتلال، الأمر الذي تجسدت جميع أبعاده بصورة واضحة على أرض الرافدين، وقد ورد في شهادة العزاوي بهذا الخصوص ما نصه: (وكانت مدرسة الحقوق مؤسسة عدلية لدرس القوانين، والحقوق والنظامات، والحقوق الأساسية والإدارية، فكانت لها قيمتها في تنبيه الآراء، وتوجيه الأفكار) ([41]).
تحمس عدد غير قليل من الشباب للالتحاق بمدرسة الحقوق التي تعد أول نواة للدراسة الجامعية في العراق كما أسلفنا، وفي بغداد نفسها فتحت المدرسة أبوابها للمتقدمين من خريجي المدارس الإعدادية، كما سمحت للطلاب غير الحاصلين على شهادة الدراسة الإعدادية بالالتحاق بها بوصفهم طلاباً مستمعين يحق لهم مواصلة الدراسة بعد اجتياز امتحان السنة الأولى، وفي حالة إخفاقهم كان عليهم ترك المدرسة([42]).
في العام الدراسي الثاني (1909-1910) تغير نظام قبول الطلاب المستمعين، فبموجب تعليمات جديدة صدرت من وزارة المعارف باستانبول، تقرر إجراء امتحان للطلاب المستمعين للتأكد من مستوياتهم العلمية قبل قبولهم في المدرسة، والسماح لهؤلاء الطلاب، بعد اجتيازهم الامتحان وقبولهم في المدرسة بمواصلة الدراسة حتى في حال رسوبهم في امتحان السنة الأولى، على أن لا يتمتعوا بحق التأجيل من الخدمة العسكرية كباقي الطلاب، ويلزمون بترك المدرسة حال دعوتهم لأداء تلك الخدمة([43]).
ولغرض منح أبناء المدن التي لا توجد فيها مدارس إعدادية فرصة دخول مدرسة الحقوق، تم إنشاء قسم خاص سمي بشعبة الاحتياط لحملة شهادة المدارس الرشدية، أو ما يعادلها بهدف إعدادهم للدراسة في المدرسة، على أن تكون مدة الدراسة في هذه الشعبة سنتين، تدرس خلالهما مواضيع تشبه إلى حد بعيد تلك التي كانت تدرس في المدارس الإعدادية، ولكن شعبة الاحتياط هذه لم تستمر في العمل طويلاً، إذ أغلقت بعد أن قامت بتخريج دورة واحدة من الطلاب([44]).
وبحكم هذه العوامل كان طلاب الدورات الأولى لمدرسة الحقوق يؤلفون تشكيلة غير متجانسة، ضمت حسب وصف أحد طلاب الوجبة الأولى، خريجي المدارس الإعدادية من الشبان كطلاب أصليين، بجانبهم كهول وشيوخ بازيائهم المختلفة وعمائمهم ولحاهم، ومنهم حكام التحقيق وكتاب الضبط في المحاكم ورؤساء الكتاب في الدواوين إلى جانب غيرهم([45]). ولقد بلغ عدد طلاب المدرسة (18) طالباً في العام (1910) ([46])، فيما ارتفع عددهم في العام (1913) إلى (252) حسب سالنامة تلك السنة([47]).
أما المواضيع التي كانت تدرس في (مدرسة الحقوق) ببغداد فإنها كانت نفس المواضيع المقررة لنظيراتها في أرجاء الإمبراطورية، وهي ما كان يعرف بالمجلة، أي القانون المدني العثماني المستمد من الفقه الإسلامي والقوانين الأوربية الحديثة معاً، وقانون العقوبات، وحقوق الدول، وحقوق الإدارة، وأصول المرافعات الحقوقية، والاقتصاد، وأصول المحاكمات الجزائية، وقانون الإجراء، وقانون التجارة البرية، وأصول الفقه، والصك الجزائي، والصك الحقوقي، والنكاح والوصايا، والفرائض والديانات، وأحكام الأوقاف، وأخيراً قانون الأراضي الذي كان يركز بصورة خاصة على قانون الأرض والطابو اللذين أصدرتهما الحكومة العثمانية عامي (1858 و 1859)، وبدأ تطبيقهما في العراق في عهد مدحت باشا([48]).
كانت الدراسة في (مدرسة الحقوق) تجري باللغة التركية، وتعتمد على كتب الاختصاص التي ترد من استانبول، وهي نفس الكتب التي كان يعتمد عليها طلاب الحقوق هناك([49])، ومما يذكر أن والي بغداد استجاب لرغبة الطلاب في أن تجري الدراسة باللغة العربية، وأنه أبلغ إدارة المدرسة في أواخر العام (1913) بموافقته على ذلك، لكن تعذر تطبيق القرار بسبب عدم توفر الإمكانات يومذاك لتعريب كتب الدراسة المقررة([50]).
لقد كانت الامتحانات في (مدرسة الحقوق) تجري بصورة شفوية لمعظم مواد الدراسة بإشراف لجنة خاصة تتألف عادة من مدرس المادة المختص، وعضوين أو ثلاثة أعضاء تختارهم إدارة المدرسة من بين ذوي الاختصاص من كبار الموظفين والقضاة والذين اعتمدت المدرسة عليهم منذ الأيام الأولى لتأسيسها([51]).
استمر الحال على هذا المنوال إلى حين نشوب الحرب العالمية الأولى، أي على مدى حوالي ست سنوات، تحولت مدرسة الحقوق في غضونها إلى ظاهرة ثقافية وفكرية بارزة على الساحة بالنسبة لزمانها، وتخرج منها عدد غير قليل من الطلاب ليكونوا شريحة لها وزنها وتأثيرها في المجتمع منذ تلك المرحلة، وباتجاه انطوى على ظواهر لم تكن معروفة من قبل، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن ميلاد بواكير الحركة الطلابية العراقية داخل أروقة (مدرسة الحقوق) تحديداً.