أنت هنا

قراءة كتاب عندما كنت وزيراً

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عندما كنت وزيراً

عندما كنت وزيراً

كتاب " عندما كنت وزيراً - سيرة ومشاهدات عراقية " ، تأليف د. عبد الأمير رحيمة العبود ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

لم يكن معلموا المدرسة الابتدائية هم وحدهم ممن كانوا يحظون بإحترام وتقدير اهالي المدينة، بل أن ما كان يميز هذه المدينة أنها كانت تضم عدداً كبيراً من الشخصيات المحترمة والمؤثرة في وسطها الإجتماعي. والغريب أن هؤلاء ما كانوا يتشابهون بصفاتهم وطبائعهم، بل كانت لكل منهم شخصية مؤثرة تميزه عن غيره .

فالسيد ((محمد الحلو)) الذي كان العالم الديني بالمدينة، كان هادئاً قليل الكلام يسيطر عليه الخجل أحياناً، لكنه بهذه الصفات من الهدوء والخجل كان محترما ومحبوباً عند الناس ، أما اخوه السيد ((محمود الحلو)) الذي كان يناوبه في إدارة شؤون الدين فقد كان نشيطاً، كثير الحركة، ذو نبرة عالية، ما إن يتحدث حتى تجد يديه تتحركان تلقائياً لتوضحا انفعاله، له نظرات ثاقبة، يفرض تأثيره على الآخرين من خلال ما يردده من أحاديث وأمثال . وإلى جانبهما ((عبد الحسن ملاُ منذور))، الذي كان طويل القامة، حسن الطلعة، نافذ الكلمة، ساخرا ضاحكاً في الاوقات كلها، كان يعمل خياطاً ولكن مهمته الأخرى هي قيادة المواكب الحسينية في عاشوراء وقراءة القصائد فيها، وأما ((عبد الرسول الصفار)) الذي كان يعمل في تصنيع الأواني المنزلية من معدن النحاس والقصدير فقد كان متوسط القامة، بهي الطلعة، أخضر العينين، واسع المعرفة، كثير الإهتمامات والهوايات، أقام مزرعتين خاصتين به في أطراف المدينة، وكان يزرعهما ويعتني بهما بنفسه ولوحده، وكان يُبهرك بأحاديثه ومعلوماته الغزيرة .

وأما ((عبد الجبار حيدر)) فقد كان طويل القامة، جميل الطلعة، هادئ الطبع، حلو الحديث، أنيق في الأوقات كلها، كان يقضي معظم أوقات فراغه مع صديقه ((عباس علًو)) في مقهى رزوقي يتجاذبان أطراف الحديث ويحولان مادة الحياة الى الضحك .

إلى جانب هؤلاء كان في المدينة كثيرون وكثيرون ممن كانوا يتميزون بشخصياتهم القوية والثاقبة، وكان ما يجمع هؤلاء هو أهتمامهم بالمناسبات الاجتماعية وبخاصة طقوس العزاء في شهر عاشوراء فهم القادة البارزون في هذه المناسبات .

***

ما ان يحل شهر عاشوراء حتى يتجمع الشباب طيلة أيامه العشرة الأولى أمام دار ((عبدالحسن ملاَ منذور))، منخرطين في مجموعات تضم كل منها قرابة الثلاثين شخصاً، ثم يبدأون بالتدريب على الاهازيج ((الردّات)) وايقاعاتها حسبما يرددها امامهم ((عبدالحسن ملاَ منذور))، وهو يلحنها لهم مستعيناً بحركات يديه كما يعمل المايسترو وهو يقود الفرقة الموسيقية ، وحينما يكتمل التدريب يتحرك الموكب متجهاً إلى جامع المدينة على بعد قرابة الكيلومتر الواحد، تتقدمهم الرايات السوداء والخضراء، حاملين وسائل الاناره ((اللوكسات)) على رؤوسهم يحيطهم أطفال المدينة وشيوخها، أما نساء المدينة فبعضهن يرافقن الموكب وقد غطٌين وجوهن واجسادهن بالعباءات السود فلا ترى سوى عيونهن، والبعض الآخر يتلصص على الموكب من نوافذ بيوتهن أومن أعلى السطوح المطلة على حركة الموكب.

يبلغ الحماس في المشاركة ذروته في موكب العزاء يوم العاشر من عاشوراء، فتكون حركة الموكب في النهار بدلاً من الليل وتتسع المشاركة فتشمل شيوخ المدينة واطفالها، وينضم إليهم ابناء الريف الذين يتدفقون من المناطق المحيطة بالمدينة ويطوف الموكب في ازقة المدينة، وتكون نهايته في سوق السراي، فترى السوق مليئاً بالناس حتى اطرافه المترامية، الذين يلطمون على صدورهم حسب الإيقاعات السريعه والالحان الشجية التي كان يرددها عبدالحسن ملاَ منذور وهو يعتلي منصته وسط السوق .

وفي الأمسيات من شهر عاشوراء تقام المجالس الحسينية، وهي مجالس تعقد في البيوت وفي جامع المدينة طيلة شهر عاشوراء، يحضرها جمع كبير من الناس ويتحدث فيها أحد رجال الدين ممن كانوا يفدون إلى المدينة من النجف الأشرف والذين كانوا يتحدثون عن تفاصيل واقعة كربلاء مقرونة بالنصائح والارشادات الدينية، واتذكر في ذلك الحين أن أحد المتحدثين كان شاباً نال اعجاب المستمعين لما تميزت به احاديثه من غزارة في المعلومات ونهج مؤثر في أسلوب الحديث، وكانوا يصفونه ((بالراديون)) لما تميز به صوته الشجي ونبرته الواضحة من ايقاع مشابه لما كانوا يستمعون إليه من مذيع الأخبار في راديولندن، وكان هذا القارئ هو المرحوم الشيخ أحمد الوائلي .

وكان للنساء مجلس مشابه تقيمه القارئة المرحومة ((عذيّة)) وابنتها ((قمرية)) في بيتهن، واللاتي كن يمتلكن الصوت الشجي والشخصية المحترمة عند نساء المدينة قاطبة، فما إن يحل المساء حتى ترى أزقة المدينة مليئة بمجموعات النساء اللاتي يتدفقن على دار الملاّ ((عذيّة)) بعباءاتهن السود للمشاركة في مجلس العزاء .

ومن أكثر الطقوس تأثيراً في النفس وتعبيراً عن الحزن والوقار هو ما كان يحصل في اليوم الحادي عشر من عاشوراء، والذي كان يسمى بيوم الوحشة، لأن عائلة الحسين صلى الله عليه وسلم بقيت وحيدة تهيمن عليها الوحشة بعد مقتل رجالها، ففي مساء هذا اليوم يتجمع سكان المدينة من كبار السن، في مجموعات كبيرة، وهم متأنقون بكامل ملابسهم قرب جامع المدينة يتقدمهم السيد ((محمد الحلو)) حاملين الشموع بايديهم، ومنكسي عقالاتهم على اكتافهم وهم يرددون بصوت حزين مرتفع:

يا شهيد الطف جئنا للعزاء

وما ان تنتهي المجموعة الأولى من ترديد شعارها حتى تبدأ المجموعة الثانية التي يتقدمها السيد ((محمود الحلو)) بالترديد:

كربلاء لا زالت كربا وبلاء

وعلى التوالي تردد بقية المجاميع شعارتها، كان هذا الموكب مشهداً وقوراً ومؤثراً ومعبراً عن الحزن والوفاء بأسلوب حضاري موقَر ، لما أصاب الحسين وعائلته من نكبة في واقعة كربلاء، كنت اتمنى دائماً، وما زلت، أن يكون هذا النهج هو الأسلوب الذي تعتمده طائفة الشيعة للتعبير عن حزنهم في شهر عاشوراء بدلاً من اللطم على الصدور العارية، والزنجيل، والتطبير .

***

الصفحات