كتاب " عندما كنت وزيراً - سيرة ومشاهدات عراقية " ، تأليف د. عبد الأمير رحيمة العبود ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب عندما كنت وزيراً
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تمتد ناحية المجر الكبير على الجانب الأيسر من نهر المجر الكبير وهي تبعد قرابة عشرة كيلومترات عن الطريق العام الذي يربط مدينة بغداد بمدينة البصرة، كانت هذه المدينة في الأربعينات والخمسينات، مقسمة إلى قسمين رئيسيين هما محلة ((السراي)) وهي محلة يهيمن عليها الطابع المدني بحدود ضئيلة، لأن أغلب سكانها ممن كانوا يعملون في الجهاز الإداري، ومستوصف المدينة، ومدرستها، وبريدها، وقدامى تجار المدينة ممن كانوا يتعاطون تجارة الحبوب والتمور والمواد الغذائية والسلع المنزلية، وممن يعملون في الحرف المختلفة، والمحلة الثانية هي ((البدراوي)) التي بناها التاجر المعروف في المنطقة ((نجم البدراوي)) وسميت باسمه وهي تتصف بالطابع العشائري بحدود ضئيلة أيضاً، حيث يسكنها أبناء بعض العشائر الذين نزحوا من المناطق المحيطة بمدينه العمارة والبصرة، مثل الوزاوزة، والوحيلات، والبيضان، وغيرهم ممن كانوا يعملون في الأعمال المهنية والتجارية المختلفة .
يخترق محلة السراي سوق كبير ، وهو السوق القديم الذي تنتشر على جانبيه محلات الخياطين ومخازن بيع الأقمشة والمواد الغذائية والتبوغ والسكائر، وينتشر على أرصفته بائعات الخبز الطازج وبائعوا الخضراوات والفواكه يتوسطهم الحاج حسين وهو يقلي كبة الموصل، والزاير نعمة وهو ينادي لتصريف ما لديه من لبن الجاموس، وكانت هذه السوق تزدحم في الأربعينات والخمسينات بالفلاحين وسكان الريف ممن كانوا يقصدون المدينة للتزود بما يحتاجونه من السلع والخدمات، حتى إن المرء لم يجد فيها خلال فترة الضحى مكاناً للمرور من شدة الازدحام. ويرتبط هذا السوق بسوق آخر كبير كان مخصصاً لبيع الدجاج والطيور والدهون والبيض ومنتجات الألبان التي كان سكان الريف يجلبونها لغرض التسويق، أما نهاية السوق من الجهة اليسرى فيقع جامع المدينة الكبير الذي يؤمه سكان المدينة بقصد الصلاة وإقامة المناسبات الدينية، ويدير هذا الجامع آنذاك الشيخ رضا الذي يقوم بعمله كمؤذن في الجامع مجاناً، بينما يعمل هو وولده صادق اسكافيان في محل صغير يقع بالقرب من نهاية الجامع من الجهة اليمنى، وتمتد مقابل نهاية الجامع من الجهة اليسرى واليمنى محلات بيع المواد الغذائية واللحوم والفواكه والخضراوات، فتجد المنطقة الممتدة بين الجامع وهذه المخازن مزدحمة بأهالي المدينة منذ الصباح الباكر وهم يتسوقون لعوائلهم ما يحتاجونه من هذه السلع، وبموازاة هذا السوق أنشئت في نهاية الأربعينيات سوق أخرى هي سوق البدراوي التي أصبحت فيما بعد متخصصة بمحلات بيع الأقمشة والسلع المنزلية .
****
تنتشر في واجهة المدينة وعلى ضفاف نهر المجر من الجهة اليسرى محلات أصحاب المهن كالصاغة، وخياطي العباءات الرجالية، والحدادين والحلاقين والنجارين ومن يمتهنون إنتاج المعدات الزراعية البدائية كالمسحاة والفاس والمنجل، وأغلب من كانوا يعملون في مجال صياغة الذهب والفضة وإنتاج هذه المعدات كانوا من طائفة الصابئة المندائيين، وينتشر بين هذه المحلات عدد من المقاهي التي كانت تقدم الشاي وشربت النومي لمن يؤمونها.
لقد كانت عادة الجلوس في المقاهي، خاصة في الأمسيات، عادة مستحكمة عند أهالي المجر الكبير، فما أن يحل المساء حتى تجد الرجال كافة يهرعون للجلوس في المقاهي لكي يستمعوا إلى أخبار العالم التي تذاع عبر جهاز الراديوالذي يفتقدونه في بيوتهم آنذاك، وبعض هذه المقاهي كانت مزودة بجهاز ((الكرامفون اليدوي))، وكانت تكتظ بالشباب من أبناء المدينة للاستماع إلى أغاني الأسطوانات الشائعة آنذاك مثل: ((على بلد المحبوب وديني)) لأم كلثوم و((يا شراعاً وراء دجلة يجري)) لعبد الوهاب و((للناصرية .. تعطش وأشربك ماي بجفوف إيديه)) لصديقة الملاية وغيرها.
وترتبط الجهة اليسرى من المدينة بالجهة اليمنى بمعبر يدوي يستند في قاعدته إلى عوامتين كبيرتين ويرتبط هذا المعبر بجهتي المدينة بحبل معدني كبير ملفوف على عتلة دائرية يحركها السيد محمد بذراعيه المفتولتين فتتحرك العبارة منتقلة من جهة إلى جهة أخرى، وكان هذا المعبر يمتلئ من الصباح حتى المساء بالفلاحين الذين يجلبون حيواناتهم وسلعهم إلى المدينة.
****
كانت ناحية المجر الكبير من المدن الصغيرة المتميزة بنشاطها التجاري والمهني على مستوى العراق خلال عقدي الأربعينيات والخمسينيات، ففيها عدد من معامل جرش وطحن الحبوب التي كانت ترد إليها آلاف الأطنان من محاصيل الرز والحنطة والشعير من المناطق الزراعية المحيطة بالمدينة ومن مناطق الأهوار، والتي كانت تصنّع وتعبأ وتشحن إلى مدن البصرة وبغداد، كما كانت ترد كميات كبيرة من الأسماك والدهون والدجاج والبيض التي كانت ترسل لغرض بيعها في مدينتي البصرة وبغداد، وحيثما كنت تلقي النظر على نهر المجر الكبير تجده دائماً مليئاً بالسفن الشراعية والابلام والمشاحيف التي كانت تنقل السلع والناس بين الريف وهذه المدينة، كما يزدحم شارعها الذي يمتد على حافة النهر وقت المساء بسيارات النقل الخشبية التي كانت تستعمل لنقل السلع إلى المدن الأخرى.
أما المناطق الريفية المحيطة بهذه المدينة من جهاتها الأربع فقد كانت تكتظ بالفلاحين من عشيرة البومحمد وبطونها وأفخاذها والعشائر المتاخمة لها مثل عشائر البوعلي والبيضان والفوطوس والفريجات والشموس وغيرها. وهم جميعاً يمتهنون زراعة الشلب (الرز) صيفاً والحنطة والشعير والذرة شتاءاً، وهم ينتشرون بقراهم المبنية من القصب والبردي على ضفتي نهر المجر الكبير ابتداءً من تفرعه في منطقة ((صدور المجر)) وانتهاءً بمنطقة الأهوار التي يصب فيها النهر مياهه بعد أن يتفرع إلى نهري ((العدل)) و((الوادية)) على بعد مئات الأمتار من ناحية المجر الكبير.
وحينما ينتقل المرء في ذلك الوقت ((بالمشحوف)) من ناحية المجر الكبير إلى منطقة الأهوار يشاهد القرى الكثيرة والكبيرة والمزدحمة على حافتي النهر، ويلاحظ قطعان الجاموس والأبقار والخراف تنتشر في المزارع، كما يشاهد البساتين والمناطق الخضراء المزروعة على امتداد النظر على جانبي النهر والتي كانت شاهداً على ازدهار الإنتاج الزراعي والحيواني في ذلك الوقت . لكن ازدهار النشاط الاقتصادي في تلك المناطق أصبح يتراجع بعد الستينات نتيجة لنزوح الفلاحين بسبب المصاعب الإنتاجية التي أصبحوا يعانون منها والتي سوف نأتي على ذكرها فيما بعد، وكان لذلك بطبيعة الحال تأثير على مستوى النشاط التجاري والمهني في ناحية المجر الكبير التي كان نشاطها يعتمد أساساً على الوضع الاقتصادي في تلك المناطق الريفية المحيطة بها، وما أن حل عقد السبعينات والثمانينات حتى أصبحت هذه المدينة مدينة للمستهلكين وليست للمنتجين، وأصبح أهلها يعيشون على المواد الغذائية المستوردة التي تقدمها الدولة والتي يأتي بها التجار.
زرت هذه المدينة قبل سنوات فوجدتها خاوية منهكة وقد تلاشت واندثرت فيها كل معالم الازدهار والنشاط، فتألمت لما حلّ بها خلال السنوات الخمسين الماضية.