كتاب " فلسفة الأخلاق عند الفارابي " ، تأليف د. ناجي التكريتي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب فلسفة الأخلاق عند الفارابي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المقدمة
ولد أبو نصر محمد بن محمد الفارابي، في مدينة فاراب، وتجمع المصادر، على أن الفارابي، حين قدم إلى العراق كان عمره، قد تجاوز الثلاثين عاماً من حياته. إذا كانت المصادر تجمع أن الفارابي قد توفي في دمشق عام 339هـ وأنه عمر 80 عاماً، فهذا يعني أن تاريخ ولادته هو 260 هجرية.
لاشك أن بغداد، حين قصدها الفارابي، كانت عاصمة الثقافة العربية – الإسلامية وحاضرة الدولة العباسية. أن الهجرة إلى بغداد، من الإقاليم الإسلامية، سواء أكان ذلك من الشرق أم من الغرب، معروفة، كون الطلبة العرب والمسلمين، يتجهون إلى بغداد للدراسة وأرتشاف العلم.
أن هذا الشيء معروف في مختلف صنوف المعرفة. أن المجال هذا لا يتسع لذكر العلماء والأطباء والأدباء، الذين قصدوا بغداد من أجل الدراسة في مدارسها، ونبغوا في الفلسفة والنحو والطب والتاريخ ورواية الأخبار.
المهم أن بغداد كانت مركزاً حضارياً عربياً كبيراً، في مختلف صنوف المعرفة. لقد انتقل إلى بغداد علماء اللغة، الذين ورثوا دراسة اللغة والأدب، في مدرستي الكوفة والبصرة الشهيرتين. حلقات التصوف موجودة ومدارس الفقه مزدهرة. أما الفلسفة فانها بدأت تتحرر من مدارس علم الكلام وتزدهر في بغداد، في كتابات الكندي وابي بكر الرازي وغيرهما من علماء العقيدة والاطباء الذين مالوا الى التفلسف.
لابد ان الفارابي قد وجد في نفسه نجابة وذكاء وتطلعاً إلى ارتشاف المعرفة. لهذه الأسباب، فأنه قصد بغداد من أجل دراسة الحكمة في مدارسها وحلقاتها، التي كانت تنشط في كل مكان.
أن ما يذهل المتتبع لدراسة حياة الفارابي، أن أبا نصر حين استقر في بغداد، لم يكتف بدراسة فرع واحد من فروع المعرفة، أذ حاول أن يحيط بكل صنوف الحكمة، شأنه شأن أي شخص عالي الهمة، يسعى أن يكون فيلسوفاً متكامل الكيان.
يبدو – كما تذكر المصادر - أن الفارابي حين وصل إلى بغداد لم يعرف اللغة العربية، وحتى إذا كان يلم بمبادئ اللغة، فأنه لم يكن متمكناً من اللغة العربية. أن أسلوبه الكتابي، يشير بوضوح، إلى أنه تعلم اللغة العربية، وهو في زمن متقدم من عمره. أن أسلوب الفارابي غير مشرق في الكتابة، كما هو الحال في أسلوب الفيلسوف أبي بكر الرازي، أو أسلوب اخوان الصفاء، أو أسلوب الغزالي.
ليس من السهل أن نحكم على الفارابي، أنه يجهل اللغة العربية تمام الجهل، أبو نصر نشأ وترعرع في بلد إسلامي، ولابد من أنه درس مبادئ اللغة العربية في فاراب، ثم اشتاقت نفسه لزيادة الإطلاع والتطلع على اغتراف العلم من بغداد عاصمة الحضارة وقتذاك.
تشير المصادر، إلى أن الفارابي درس النحو والبلاغة في حلقة السراج اللغوي التي كان يعقدها في بغداد، لتدريس فنون اللغة والنحو والبلاغة، أن هذا يعني أن الفارابي لم يبدأ من الصفر، بل أنه أتقن اللغة على يد عالم نحوي كبير في بغداد هو السراج.
الفارابي – إلى جانب دراسته للنحو وتعمقه في النحو – درس الطب والموسيقى وعلم الفلك والرياضيات، هذا إلى جانب الفلسفة والمنطق الذي تعلمهما على أيدي أشهر مدرسين للفلسفة، هما يوحنا بن حيلان وأبو بشر متى بن يونس.
اشتهر الفارابي، في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، مترجماً وشارحاً ومؤلفاً، حتى أنه عدّ مؤسس الفلسفة الإسلامية، أنه قدم كثيراً من مؤلفات افلاطون وأرسطو، بطريقة شارح متمكن للفلسفة اليونانية، كما أنه ألف أكثر كتبه في بغداد.
أنه فضلاً عن ذلك، صار معلماً للفلسفة، كأي فيلسوف موسوعي، مطلع على شؤون الفلسفة، تاريخاً وجوهراً. أنه استطاع أن يكوّن مدرسة، امتد أثرها إلى نهاية القرن الرابع الهجري، عرفت بمدرسة بغداد الفلسفية. أنهم تلاميذ الفارابي، الذين يعدّون – في كتاباتهم من صغار الفارابيين.
لعل أشهر تلاميذ الفارابي، هو يحيى بن عدي التكريتي، الفيلسوف المشهور، الذي رأس مناطقة بغداد بعد الفارابي، وأن من طلبة تلك المدرسة المشهورين أبو سليمان المنطقي وأبن زرعة وابن الخمار ومسكويه وأبو حيان التوحيدي وأبو يوسف العامري.
في أواخر حياته، وبالتحديد فأنه في سنة 330 هجرية غادر بغداد إلى حلب. الفارابي طوال حياته بقي مخلصاً لدراسة الفلسفة وتدريسها، قانعاً بحياة بسيطة زاهدة، حتى أنه قيل، حين قضى سنواته الأخيرة في حلب، كان يعيش من أجرة حراسته لبستان، انقطع فيه، من أجل الدراسة والتأمل والتأليف.
المهم أن الفارابي قد اشتهر كفيلسوف كبير، وذاع خبره، فاستدعاه سيف الدولة الحمداني، ويقال أنه خصص له راتباً، اكتفى الفارابي بأخذ ما يقيم أوده، وقيل أنه اكتفى بأخذ أربعة دراهم فقط، ويقال أنه كان يحيا من أجر حراسته البستان، الذي اتخذه مكاناً للقراءة والتأمل، سافر إلى مصر سنة 338، ثم عاد إلى دمشق فتوفي فيها سنة 339هـ.
نبغ الفارابي، بسبب كونه عاش، في فترة ازدهار الحضارة العربية الاسلامية، في القرنين الثالث والرابع للهجرة. المد الحضاري هذا، الذي عاشه الفارابي كان نتيجة لبناء حضاري، ترجع جذوره إلى الأدب والشعر والحكمة قبل الإسلام، ثم ما جاء به الإسلام من تنزيل القرآن الكريم، وما جرت عليه من شروح. الأحاديث النبوية وفقه الفقهاء، إضافة إلى المدارس الكلامية، التي ابتدأت بدراسة القرآن والحديث، ثم كان المعتزلة والأشاعرة.
لعل أول من تفلسف عند العرب، هو الكندي الذي تطور فكره من علم الكلام إلى الفلسفة. يمكننا أن نعد الكندي أول فيلسوف، كان بالإمكان عده مؤسس الفلسفة الإسلامية، لو وصلت إلينا كتبه كاملة. الترجمة كان لها أثر كبير في نمو وازدهار الفلسفة، ولاسيما تلك الكتب الفلسفية، التي ترجمت من اليونانية.
وهكذا ينتهي الفكر الإنساني، شرقيه، وأعني به ما ترجم من الحكمة الهندية والحكمة الفارسية، وغربية ما ترجم من اليونانية، حين سادت الفلسفة العربية – الإسلامية، وازدهرت في بغداد، مشعل النور، التي أنارت حضارتها دروب الجهل في أوربا. وهكذا استطيع أن أعد االفارابي هو مؤسس الفلسفة العربية – الإسلامية، لما قدم من فكر فلسفي أصيل، في شتى صنوف المعرفة، من فلسفة ومنطق وعلم وموسيقى، أما كتبه في الاجتماع والسياسة، فمشهورة، وقد أثرت في فلاسفة المغرب، الذين أثروا بدورهم في أوربا. أنه المعلم الثاني، وقد اشتهر كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) حتى أنه عرف بصاحب المدينة الفاضلة.
لاشك أن فكر الفارابي مزيج من الدراسات القرآنية وما تبعها من مدارس فقهية وكلامية، ومن تأثره بالفلسفة اليونانية، ولاسيما فلسفتي افلاطون وارسطو. الفارابي درس الفلسفة اليونانية وتأثر بها، غير أنه وقف موقف الدارس الناقد المتفحص، الذي يقبل شيئاً ويرفض شيئاً آخر.
لاضير في ذلك، إذا ما علمنا أن الحضارة الإنسانية واحدة، والحضارات المحلية، كالأنهار تأخذ بمقدار وتعطي بمقدار. إذا كان لكل حضارة محلية طابعها الخاص، فأن الحضارة الإنسانية، هي البحر المحيط، الذي يشترك فيه الإنسان، في كل مكان وزمان.