كتاب " المشوار " ، تأليف د. فخري لبيب ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب المشوار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقـــــــــــــدمـــــــــــة
فخرى لبيب... الشجرة الوارفة التى نستظل بها
شعبان يوسف
ليس من المبالغة إذ نقول: إن مشوار فخرى لبيب، الذى قطعه –نضالاً- منذ عقد الأربعينيات، حتى الآن، هو عبارة عن تاريخ ومشور وكفاح مصر. وليس هذا الكتاب، الذى بين أيدينا، إلا قطعة نابضة وحية وحقيقية من قلب هذا الوطن. وليس هذا من المبالغة، أو المديح، أو الإطراء، بل لا يسعنى إلا أن اقول: إن أى كلمات تقال لن تفى هذا الرجل والمناضل والإنسان حقه، فرحلته التى بدأت من مكان ناءٍ فى جنوب مصر، ثم الفيوم، ثم أسوان، حتى تصل به إلى القاهرة، رحلة مضنية، وغنية ومثيرة، وتضج بالمعانى النبيلة والوطنية والإنسانية، من البيت، إلى المدرسة إلى الجامعة، إلى فضاء مصر كلها. نستطيع أن نتعرف على هذا الوطن بتفاصيله المدهشه، وحكاياته المذهلة، من خلال ذاكرة نشطة، ويقظة، ومتأملة، لا تحكى، ولا تصف أو لا تقف عند التأمل فحسب، بل تتوغل فى التفسير والتحليل، وبالتالى فهى ذاكرة لا تبرر، بقدر ما هى ذاكرة جارحة –أيضاً-، تكشف وتعلن، أكثر مما تستر وتخفى، ذاكرة لا تدعى بطولة لصاحبها، بقدر ما تفرغ مخزونها ببساطة وهدوء عجيب، هذا الهدوء الذى يهدر بأحداث جسيمة وثقيلة، منذ انتقال الوالد- معاون المحطة بالسكك الحديدية- من بلد إلى بلد، ودخول الأخوة للمدرسة. ورفض صاحب السيرة أن يذعن لقرار المدرسة بعدم قبوله، فظل يذهب كل يوم مع أخوته، ويقف على باب المدرسة، حتى أدهش ناظر المدرسة الذى استدعاه، وتعرف عليه بعد حوار مكثف، فألحقه بالمدرسة التى تعلم من مدرسيها أشياء كثيرة، وضعته على أسنة أسئلة حادة ومصيرية، هذه الأسئلة التى حرّكت مشاعر الفتى وأفكاره، وظل هو بالتالى يعيدها على نفسه، ويحاول أن يطورها، ويجد لها إجابات، ويبحث عن حلول، لكن الحلول –دوماً- لا تكمن فى الكلمات، بل تتفجر فى العمل. وهذا ما أدخرته الأيام التالية للفتى عندما ذهب إلى القاهرة المتفجرة بأحداثها، والمشتعلة بمظاهراتها، والمحتجة على ما يحدث، والكاسرة لشوكة الأباطرة المتعددى الأوجه، والمختلفين فى طرق سيطرتهم واستغلالهم لطبقات الشعب الفقيرة...
جاء الفتى الشاب فخرى لبيب، من الجنوب، وهو مدجج بحلم الثورة، وبكلمات مدرس التاريخ التى وجدت هوى جامحاً بقلبه، فقلبها الفتى، وحركها فى روحه، فأثمرت الكلمات/ البذور- لتصبح أشجارًا وارفه فيما بعد. جاء الفتى مفتوناً بمدرس التاريخ، وبكلماته، هذا المدرس الذى كتب عنه لصديقه عبد الله، كامل رسالة يقول فيها: (أصبت عندما قلت أننى أحب مدرس التاريخ. لقد توجهت إليه أسأله عن الكيفية التى تمكننا من القيام بثورة فى مصر، ثورة مثل الثورة الفرنسية، التى قادها ميرابو ودانتون وروبسبير ومارا، من أين لنا بمثل هؤلاء هنا. بدا فى البداية متردداً.. وإن كان سعيداً. سألنى لماذا أهتم بمثل هذه القضية هكذا؟ أوضحت له أنه هو الذى أخبرنا بذلك. سألته إن كان يمكن للملك أن يقوم بها؟ فهو الشاب الذى رفض مطالب الإنجليز فحاصروه بالدبابات ليرغموه على قبول مطالبهم. بحلق الرجل فى وجهى مندهشاً، قال: إن الثورة الفرنسية أطاحت بالملكية وأن الملكية فى مصر والملك شخصياً فى حاجة إلى الإنجليز، وهم الذين يحمون نظامه، إذ أن الأسرة المالكة وحدها تمتلك خمس الأراضى الزراعية، وهى أسرة ألبانية أجنبية، كيف أستولت على كل تلك الأراضى؟ كيف حرمت المصريين منها وحولتهم إلى عبيد فى مزارعهم وتفاتيشهم الملكية؟) هذه الأسئلة جميعاً لم تسقط فى روح الفتى عبثاً... بل نشبت أظافرها الحادة فيها. وظلت تنبش وتحرك وتهتف حتى وجد الفتى نفسه يبحث فى القاهرة عن من يساعده فى سلسلة اغتيالات لهؤلاء الذين نهبوا مصر، واستغلوا ثرواتها، وسرقوا شعبها، وحولوا أبناء هذا الوطن الأصليين إلى خدم عندهم. وعندما قابله أحدهم، وأفهمه أن الاغتيالات لا تجدى، بل العمل الجماعى هو الذى يستطيع أن يحرر هذا البلد من كل أدرانه الأجنبية والمحلية، وُضع الفتى على أول الطريق الذى لم يتخل عنه –مطلقاً- فى شبابه ورجولته، ونضاله الدائم، الذى نفخر به ونعتز بإنجازاته الوارفة، والذى ما زال يظللنا نحن الأجيال التالية كسماء شامخة نحتمى بها...
ومنذ ذلك التاريخ الذى يسجله فخرى لبيب بدقة مدهشة، بتوثيق، مستعيناً بأوراق، ورسائل، وأظن أن الرسائل التى أوردها –لبيب- فى هذا الكتاب، تضاف إلى أدب الرسائل الرفيع، والذى يجمع بين الأسلوب الأدبى الراقى، والأفكار العميقة، الغنية بالمعانى، هذه الرسائل التى كان يتبادلها مع صديقه الحميم عبد الله كامل، وهو فى السادسة عشرة من عمره، أو أقل. ويندهش المرء –حقاً- من هذه الرسائل الفاتنة، والمكتوبة بوعى يفوق وعى هذه السن الصغيرة، هذه الرسائل التى تفجرت وفجرت روح الفتيان معها بكل ما هو ناضج وشاب وأخضر للدرجة التى تضع الشابين أمام وعيهم. يقول عبد الله كامل فى رده على فخرى فى الرسالة الخامسة: (أفزعنا خطابك الأخير أشد الفزع، لقد سمعنا حقاً عن وباء الملاريا، لكننا سمعنا أيضاً أن الحكومة والملك يتخذان كل الإجراءات اللازمة لمعاونة المصابين، غير أننا لم نتصور ابداً أن ما يحدث لكم هو هذه الحالة البشعة من الانحدار والاستهانة بحياة الناس، أى عالم هذا الذى تحكى لنا عنه؟ أين فرض الدين على هؤلاء الذين لا يعرفون الرحمة؟ وهى جوهر الدين والإسلام!!).. لاحظوا أن الذين يكتبون هذه الرسائل، ويرسلون تلك الأفكار، ويسألون هذه الأسئلة، ما زالوا صبية صغارًا فى الخامسة أو السادسة عشرة من أعمارهم، ومن المفترض ألا يكونوا قد غادروا ملاعب الكرة، أو على الأقل تنصرف أذهانهم وانشغالاتهم إلى ما يخص مراهقاتهم، حيث الفتيات التى تداعب ذكورتهم المتفجرة، والتى تبحث لها عن تحقق...
لكن الفتى ورفاقه كان لهم شأن آخر... فيأتى فخرى لبيب إلى القاهرة ليلتحق بكلية العلوم، والتى كان عميدها د.مصطفى مشرفة. ويلتقى بزملائه، والحال متفجرة، ومحمود فهمى النقراشى باشا، رئيس الحكومة، ورئيس حزب السعديين، دائم الحديث عن المفاوضات مع الحليفة بريطانيا العظمى. وكان المصريون أصدقاء الإنجليز –يتحدثون عن أن ما بين مصر وبريطانيا هو أقرب بالزواج الكاثوليكى، أى زواج لا يعرف الطلاق أبداً.. ويتقدم بعدها رئيس الوزراء فى 25 ديسمبر 1945 بمذكرة هزيلة إلى الحكومة البريطانية للدخول فى مفاوضات لإعادة النظر فى معاهدة 1936، فترد بريطانيا على النقراشى رداً مجحفاً وسخيفاً ومذلا: (إن سياسة حكومة جلالة الملك هى أن تدعم بروح الصراحة والعدل التعاون الوثيق الذى حققته مصر ومجموعة الأمم البريطانية أثناء الحرب).... إذن ماذا يفعل الفتى المتفجر، والمخنوق بأسئلته العنيفة، سوى أن ينضم لمجموعة أخرى تشبهه، وتتعاون معه، ويتعاون معها للقيام بثورة تكسح كل هذا البلاء الطافح على وجه الوطن،... وتشتعل البلاد، وتتفجر المظاهرات. ويسجل فخرى لبيب هنا يوميات الحركة الثورية، فى مصر، أثناء اشتعالها. ورغم أن يوميات فبراير، أو أحداث فبراير عام 1946 كتب عنها الكثيرون، إلا أن فخرى لبيب، الشاهد والمشارك فى الأحداث، والضالغ فى تفجيرها، يسجلها بدقة وأمانة وتوثيق.. لحظة بلحظة، وساعة بساعة. ويلاحق الأحداث بأوصاف يندهش المرء من براعته، رغم دموية هذه الأحداثـ التى مرت بفتح كوبرى عباس. ويورد بعض ما كتبه طه حسين- أنذاك- جريدة الوفد قائلاً: (لو حوكم صدقى على جرائمه عام 1930 لما ارتكب النقراشى جرائمه، يجب أن يقدم هؤلاء السادة إلى المحاكمة، ويجب قبل كل شىء أن تعرف الأمة المصرية بالضبط عدد القتلى والجرحى، وإذ كان قتيل واحد يكفى محاكمة ألف وزارة وألف نقراشى...). هكذا كتب طه حسين بغضب عارم، وحماس بالغ، محتجاً على ما يحدث، ومطالباً بمحاكمة الوزارة ورئيسها. ودعنا مما كتبه خالد بكداش، ويورده أيضاً –فخرى لبيب، حتى يتضح لنا كيف كانت البلاد- آنذاك، وكيف كان الفتى الطالع من دم البلاد... والمتفجر من طينها الطيب والطاهر...
منذ ذلك الوقت لم يعرف الفتى هدوءًا، ولم يعرف استقراراً، إلا عندما يتحرر هذا الوطن من أمراضه- فكانت السجون والمعتقلات محطاته الدائمة، ومواجهاته مع الجلادين، إنها دأبه المعتاد- ورغم أن أحداث هذا الجزء تنتهى عند عام 1955، إلا أننا نقرأ أحداثاً جساماً تحملها الفتى برضا كامل، وروح وثابة مثمرة، طامحة فى مستقبل جماعى أفضل- ما زال يحلم به الرجل للآن، رغم كل الأحداث المريرة التى مرت بها البلاد، وتنتظرها... وبهذه الأحلام والأحداث يعتبر فخرى لبيب أحد المعلمين العظام، الذين علمونا كيف يكون المناضل قادرًا على الثبات على المبدأ، رغم كل التنصلات التى شهدها زماننا السعيد. فخرى لبيب الرجل والحركة والإنسان والكاتب والمترجم، ليس أيقونة نحتفى بها –كما يفعل السدنة والكهنة فى معابدهم-، بل هو الرجل الذى نتعلم من مشواره النبيل كل المعانى الإنسانية التى ناضل من أجلها الأنبياء والقديسون والمناضلون البررة على مدى التاريخ الإنسانى.. فهو ما زال يثمر فى كل اتجاه، فى الترجمة، فلا ننسى ترجمته البالغة العذوبة لرواية "عريان بين ذئاب" لبرونوابيتز الألمانى. ولا ننسى ترجمته لرباعية الإسكندرية للورانس داريل، هذه الترجمة التى فاقت شهرتها اسم الرجل ذاته... وفخرى لبيب لا تهمه الشهرة، ولا تشغله النياشين، ولا يبحث عن مكافآت، فهو من الذين يعشقون مبدأ: (نحن فى الظل، ولكن نحن فى المواجهة)... وسوف تظل مسيرته وسيرته وكتاباته تعمل فى الأمام، وفى المواجهة، كمصباح يضىء لنا، نحن الأجيال التالية، هذا الطريق الوعر...
أفخر بأننى رافقت الرجل وتجادلت معه ما يزيد عن ربع قرن، وذلك من خلال عملنا المشترك فى ورشة الزيتون بحزب التجمع. واعترف أنه كان له فضل التأسيس، والإنشاء، والتحريض المستمر. ومن عرف العمل العام وويلاته، سيعرف كم يعانى المرء من بناء مشروع ناجح، لا ينتج سوى القيمة، ولا توجد من ورائه مكاسب مادية أو عينية مطلقاً، عدا ما تجره هذه المشاريع الفكرية والسياسية والحماهيرية من متاعب.. أعترف أن الرجل كان محرضاً عظيماً، وفاعلاً كبيراً فى إنشاء تلك المشاريع.. ورغم ذلك فإنه يعانى من نشر أعماله التى ظل يكتبها بصبر ودأب نادرين. ويشهد على ذلك كتابه الملحمى: (الشيوعيون وعبد الناصر)... هذا الكتاب الذى سجله مع كافة المناضلين الذين عانوا من تجربة الاعتقال فى عهد عبد الناصر، وفرغ الأشرطة، وصاغ الكتاب.. وذاق الأمرين –كما يقولون- كى يجد ناشراً له، وكنا نذهب معاً لدور النشر التى زعمت ثورية زائفة، فماطلت، وسوّفت، حتى خرج الكتاب دون ناشر، وعلى نفقة مطبعة الأمل، هذا الكتاب الذى لم يروج له–حتى الآن- كما يجب، ولم يجد له عارضين وشارحين ومهللين، لأنه ببساطة، يتحرى صدقاً نادراً، لذلك لم يجد له أفراحاً نشهد بعضها الآن. لقد خاض فخرى لبيب اشتباكات حقيقية ولذلك لم تكف السلطة السياسية عن ملاحقته وتوقيفه واعتقاله حتى عام 1989، أى بعد أن جاوز الستين من عمره...
أى رجل هذا. ومن أى معدن صيغت حياته؟ أقرر وأنا فى كامل وعيى: أن فخرى لبيب هو أحد اللبنات الكبرى الإنسانية لهذا الوطن، والتى تظل سيرته قبساً نستضىء به، ويظل مشواره هو مشوار النبل والشجاعة النادرين فى هذا الزمان..
ورغم كل هذا لم يكتف الرجل بكونه مؤخراً شاهداً ومشاركاً، ولا مترجماً يترجم كل ما يقع فى يديه ويخص مصر، فهو له وجهة نظر فيما يترجم. ولم يكتف بكونه ناشطاً عاماً يبين هنا ويشيد هناك، بل كتب القصة والرواية أيضاً، فكانت إبداعاته الفردية انعكاساً جدلياً لحياته، فكتب روايته (الجبل وأنا)، و(الأيدى الخضراء).. ومجموعته القصصية (كنز الدخان).. ولديه ما ينتظر النشر... هذه الإبداعات التى بدأها فخرى لبيب منذ أواخر الخمسينيات، بقصة نشرها فى جريدة "المساء" تحت عنوان "هدى"، نشرها باسم شقيقه الراحل رأفت لبيب، حيث كان هاربا وملاحقاً، حتى وقع فى أيدى السلطات.. وظل خمس سنوات فى المعتقل، وتستمد هذه السنوات الخمس ببطولة الرجل، هذه البطولة التى كتب عنها الكثيرون مثل طاهر عبد الحكيم فى (الأقدام العارية)، وفتحى عبد الفتاح فى (شيوعيون وناصريون) وفى (حدتو) لمحمود الوردانى.. الجميع يشهد بمواقف الرجل.. واستبساله المنقطع النظير فى المعتقل. ولا أنسى أيضاً ما كتبه عنه فوزى حبشى فى (معتقل لكل العصور)... أن الاحتفال بفخرى لبيب الذى بلغ الثمانين من عمره المديد (مواليد 7 فبراير 1928)... هو تأكيد لثقل هذا الرجل. أن فخرى لبيب بهذه السيرة التى تضاف وتضيف إلى أدب السيرة، سوف يحدث، كما أظن، الكثير من إعادة النظر وكشف لكثير من الحقائق، وأتمنى أن يتخلى الصامتون عن صمتهم.