كتاب " الاغتراب في الشعر العربي في القرن السابع الهجري" ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب الاغتراب في الشعر العربي في القرن السابع الهجري
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
التمهيد : مفهوم الاغتراب في اللغة والاصطلاح
شغلَ موضوع الاغتراب الجانب الأكبر من اهتمامات الأدباء والمفكرين والفلاسفة والأنثروبولوجيين والفنانين، إذ نجده قد زاحم المصطلحات في كتب النقد والأدب، وعلم النفس والتحليل الاجتماعي واللاهوت، وظهر موضوعاً أساسياً في كثير من الأعمال، فهو ظاهرة إنسانية وجدت نفسها في مختلف أنماط الحياة الاجتماعية، وفي أغلب الثقافات التي بناها الإنسان، وقد تعددت معاني الاغتراب بمرور الزمن، إذ لابد لكل مصطلح من أنْ ينشأ بسيطاً بدلالته، إلاَّ أنَّه يأخذ مديات أوسع بتطور الزمن، ثم يتحدد وتتعدد معانيه.
والواقع أنَّ مصطلح الاغتراب يُعدُّ الآن من أكثر المصطلحات تداولاً في الكتابات التي تعالج مشكلات المجتمع الحديث، ولاسيَّما المجتمع الصناعي المتقدم، إذ ظهرت في السنوات الأخيرة مؤلفات عديدة وفي مختلف اللغات، حاولت أن تتناول مفاهيم الاغتراب ومضامينه، وأساليب معالجته في مجالات متعددة، إذ عدَّ الكثير من الكتاب والمفكرين ظاهرة الاغتراب من أهم السمات المميزة للعصر([2]).
وللاغتراب معانٍ ودلالات عديدة، تعكس طبيعة النظر إليه، والرؤيا الفنية له، فأن تتبع اللفظ في المعاجم العربية يشير إلى أنَّه مشتق من الفعل غَرَبَ، يغربُ، بمعنى غاب واختفى وتوارى وتنحى وبَعَدَ عن وطنه إذ جاء لفظ الاغتراب في المعاجم العربية بمعنى الغربة عن الوطن، فقد أشار الفراهيدي إلى هذا المعنى بقوله: (الغربة: الاغتراب عن الوطن، وغرب فلان عنَّا أي تنحى وأغربته وغرَّبته، أي نحيته، الغربة النوى والبعد)([3]).
ويؤكد هذا المعنى الجوهري، إذ يقول أن التغريب: النفي والإبعاد عن البلد مشيراً إلى الحديث النبوي الذي أمر بتغريب الزاني منه إذا لم يحصن([4]).
وأشار ابن منظور إلى أن لفظ (الغرْب) بمعنى الذهاب والتخفي عن الناس، وترد الغربة والغرب بمعنى النوى والبعد، ويُقال غرَّب في الأرض إذا أمعن فيها، ورجل غريب ليس من القوم، والغريب الغامض من الكلام، وتبعه الزبيدي في تاجه([5]).
لذلك نجد أن لفظة الاغتراب تشير في أغلب معانيها إلى الغربة المكانية والابتعاد عن الوطن، إذ تشترك هذه الدلالة بجذر واحد هو (الانفصال عن) وبإرادة ذاتية أي حصول الانفصال برغبة الذاهب وإرادته، لكننا نجد في قول ابن منظور (وأغرب الرجل جاء بشيء غريب)([6]) بعض الدلالة التي قد تختلف في مضمونها عن المعاني المذكورة، إذ عبَّر المعنى هنا عن الاختلاف، والتجاوز على المألوف السائد، ذلك أن الشيء الغريب هو كسر للآخر والأُسس والتقاليد أَو التصورات القائمة، ويقال اغترب فلان إذا تزوج من غير أقاربه([7])، إذ جاء في الحديث الشريف: {اغتربوا ولا تضؤوا}([8]). وقيل العلماء غرباء لقلتهم بين الجهال، وجاء في اللسان أنَّ الغريب هو الذهب لكونه غريباً بين الجواهر الأرضية([9])، وفي ذلك معنى التفرد والاختلاف.
لذلك يتبين لنا أن النظر المتعجل قد يقود إلى الظن أنَّ المعنى اللغوي الذي ورد في المعاجم لا يتعدى مفهوم النزوح والابتعاد عن الوطن، لكن عملية استقراء النصوص، وتشخيص المدلولات تشير إلى أنَّ هناك معاني أُخرى يمكن أن تبرز لنا، منها الغربة الاجتماعية والتي تتمثل في غربة الناس، وذلك من خلال قول ابن منظور: الغرب بمعنى الذهاب والتخفي عن الناس، وأيضاً الغربة عن الأهل والأقرباء وربما نتلمس بعض مظاهر الاغتراب النفسي، حين يجد الإنسان نفسه غريباً عن الناس والمجتمع، وذلك في إشارة ابن منظور في أن (الاغتراب افتعال من الغرب، ورجل غريب ليس من القوم)([10]) إذ أنَّ مثل هذا الانفصال لا يمكن أن يتم دون مشاعر نفسية، قد يكوِّنها القلق أو الخوف، وربما الحنين أو أشياء أخرى تعكسها النفس الإنسانية.
كما يشير الاصفهاني (_356هـ) إلى أنَّ (فقد الأحبة في الأوطان غربة، فكيف إذا اجتمعت الغربة وفقد الأحبة)([11])، كما نلمس تداخلاً بين الاغتراب السياسي الذي يؤثر في الاغتراب الاجتماعي، وقد يؤثر كلاهما في الاغتراب النفسي أو الديني، إذ يمكن ملاحظة ذلك التداخل في قول أبي حيان (_403هـ) (فأين أنت من غريب لا سبيل له إلى الأوطان، بل الغريب من ليس له نسيب... الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة.... إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً)([12]). ونجد عدداً من المفاهيم الاغترابية في قوله: (أين أنت من غريب قد طالت غربته في وطنه)([13]) إذ نلمس فيه بعض مضامين الاغتراب الاجتماعي الذي مسَّ الاغتراب السياسي أو النفسي فلو لم يكن هناك شعور بالكبت والحرمان وفساد الواقع الاجتماعي لما كان هذا الشعور. وفي قوله (وأين أنت من غريب لا سبيل له إلى الأوطان)([14]). نلحظ فيه مضمون الاغتراب المكاني الذي لا يخلو من دوافع نفسية واجتماعية وسياسية([15]).
أما في الاصطلاح فقد عدَّ أغلب الباحثين ظاهرة الاغتراب، ظاهرة إنسانية وجدت في مختلف أنماط الحياة الاجتماعية، وفي كل الثقافات ولكن بدرجات متفاوتة، ذلك أنَّ الاغتراب قد يعني الانفصال وعدم الانتماء، ويُعرّف أيضاً بأَنَّه وعي الفرد بالصراع القائم بين ذاته والبيئة المحيطة به، وبصورة تتجسد في الشعور بعدم الانتماء والسخط والقلق([16]).