كتاب " الاغتراب في الشعر العربي في القرن السابع الهجري" ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب الاغتراب في الشعر العربي في القرن السابع الهجري
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إذ بدأ لوحته الطلية باستيقاف صحبه، ودعوتهم لمشاركته حزنه وألمه، فقد أخذته الهموم إلى غربة نفسية عميقة، فضلاً عن فشله في استعادة ملك أبيه والثأر لمقتله، إذ كان هو وعنترة من أكثر الشعراء أحساساً بالاغتراب، فغدا شعوره حالة مريرة أصبحت فضاءً لاغتراب الشاعر في حياته. وشعر بثقل الزمان فقال: (الطويل):
وليلٍ كَموْج البَحْرِ أرْخَى سُدُولَهُ فَقُلّتُ لهُ لَّما تمطَّى بصُلْبهِ ألا أَيُّهَا الَّليْلُ الطَّويلُ ألا انْجلىِ
عَليَّ بأنْواعِ الهُمُومِ ليبتلي وأرْدَفَ إَعْجَازاً وناءَ بكَلْكلِ بِصُبْحٍ وما الأصْبَاحُ مِنك بأِمْثَلِ([78])
فهذا الوعي الكوني جعله مغترباً من الزمان.
وأي اغتراب نفسي عانى منه الشاعر حين رأى جسمه يتناثر، ولا يملك له دواءً، والدار بعيدة، والموت يدنو، وكأنما يحمله جابر التغلبي إلى قبره، فيصف هذا الموقف المؤلم ونهايته الفاجعة، بقوله: (الطويل)
فإمَّا تَريني في رحالة جابرٍ فيارُبَّ مكرُوبٍ كررتُ وراءَهُ إذا المرْءُ لم يحزُنْ عليه لسَانَهُ
على حَرجٍ كالقرِّ تخْفِقُ أكفاني وعانٍ فككتْ الغُلَّ عنه فقدَّاني ليْسَ على شيءٍ سَوِاهُ بخزَّانِ([79])
وتعصف به رياح الغربة المكانية حين رأى قبراً لامرأة من بنات ملوك الروم هلكت بأَنقرة، فيسأل عن صاحبته، وعندما يُخبر بخبرها، يقول: (الطويل):
>
أجارتَنا إنَّ المزارَ قريبُ أجارتنا إنَّا غريبان هاهنا
وإني مُقيمٌ ما أقامَ عسيبُ وكلُ غريبٍ للغريب نسيب([80])
ويقول عبيد بن الأبرص في معلقته: (مخلع البسيط):
>
أقفرَ مِنْ أهلهِ مَلْحُوبُ ......................................
فالْقُطَّبيَّاتُ فالذَّنُوبُ ......................................
>
وبُدِّلَتْ مِنْهُمُ وُحُوشاً ......................................
وغَيرَّتْ حاَلَها الخُطُوبُ ........................... ...........
فأن يكن حال أجمعُها أَو يكُ أَقْفَرَ مِنها جَوُّها فكُلُّ ذي نِعْمةٍ مخْلوسُ
فلا بَديٌّ ولا عَجيبُ وعَادَها المحْلُ والجُدُوبُ وكُلُّ ذي أَمَلٍ مكْذُوبُ([81])
ولا شك أنّ الإقفار والأحلاب صورة لانعكاس الواقع في نفسه حينما أحس بتبدل المكان وامتلائه بالوحوش، فينقل الطْرف مستوحشاً بين (محلوب والقطبيات)، ولا يرى أمامه سوى الأمل الضائع. ولا تخرج نماذج المعلقات عن هذا المجرى كثيراً، وإن خالفته في نمط لمعالجة، أو في بعض التفاصيل.
أما عنترة العبسي، فقد اغترب نفسياً، عندما نكره أبوه وعمَّه، فقاسى مأساة لونه وعبوديته اللذين وقفا حائلاً دون المنال من معشوقته، إذ يقول: (البسيط):
العبدُ عبدُكُمْ والمَالُ مالكُم
فهلْ عذابك عنِّي اليومَ مصروفاً([82])
فندرك اغترابه في بيئته وإحساسه العميق بالضياع والهوان وشعر بظلم عمه وقبيلته حينما رفضا الاعتراف به، وتزويجه من ابنة عمه، إذ راح يبث عذاباته التي فرضها عليه واقعه المر من خلال عذاب لونه وعبوديته ورفض حبه، فيقول: (الكامل)
هل غادرَ الشُّعراءُ من مُتّردَّمِ أعياك رسْمُ الدَّارِ لم يتكَلَّمِ ولقد حبستُ بها طويلاً ناقتي يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تكلَّمي
أم هل عرفتَ الدَّار بعد توَهُّمِ حتَّى تكلَّم كالأصم الأعجم أشكُو إلى سفْعٍ رواكد جُثَّمِ وعَمي صباحاً دارَ عبلة واسلمَي([83])
فلنا أن نتخيل مدى العذاب والحرمان الذي كان يعانيه، وهو يقف يخاطب دار عبلة باثاً شجوه وحنينه وأحزانه، ويبث شكواه إلى الأَثافي الصماء التي لا تعقل، ليعكس لنا شعوراً نبصر به اغتراباً نفسياً عاشه بعزلته عن الناس وإقباله محدِّثاً ما لا يعقل.
وكانت الأعراف والتقاليد السائدة في ذلك المجتمع تحاول أن تمحو الذات لتذيبها في المجموع، وذلك قد يدفع البعض إلى التمرد على أعراف القبيلة، في محاولة منه لتحقيق ذاته، وذلك ما نلمسه في أسلوب طرفة بن العبد الشاعر الثائر الذي أحس بعبثية الحياة وعدم جدوى العيش في هذا الوجود الكائن إلى الزوال، فيحاول أن يدرك سر نفسه([84])، ونلمس في عبثيته هروباً من مواجهة ذاته. إذ يرى أن الحياة ما هي إلاَّ كنز أخذ بالتناقص كل ليلة، فيدعو النفس إلى تحقيق رغباتها في هذه الحياة، معلناً بذلك تمرده على واقعه، إذ يقول: (الطويل)
أرى العيشَ كنزاً ناقصاً كُلَّ ليلةٍ
وما تَنْقُصِ الأيَّامُ والدَّهرُ ينفدُ([85])
فاغترابه ناجم من إحساسه بضياع النفس وحقوقها، فإذا به يبحث عن بديل، من خلال عشقه الحرية والطبيعة وهيامه في الفلوات التي لا تخضع لقانونٍ اجتماعي أو قيود القبيلة المفروضة([86]).
وتتألم نفسه لظلم أقاربه وجورهم، مما جعله يُقبل على اللذات ويتمادى في مجونه، وذلك ما أثار حفيظة قبيلته التي رأت في ذلك خروجاً على أعرافها، فعزلته كالبعير الأجرب، إذ يقول: (الطويل)
وما زال تشرابي الخُمور ولذَّتي إلى أن تحامتني العشيرةُ كُلُّها
وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتلدي وأُفرِدتُ إفراد البعير المُعبَّدِ([87])