كتاب " الصوت والمعنى في الدرس اللغوي عند العرب في ضوء علم اللغة الحديث " ، تأليف د.تحسين عبدالر
قراءة كتاب الصوت والمعنى في الدرس اللغوي عند العرب في ضوء علم اللغة الحديث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الصوت والمعنى في الدرس اللغوي عند العرب في ضوء علم اللغة الحديث
وهذا مما يؤكد الطبيعة الصوتية المرتبطة باللمعان، وهذا ما أظهره من الجانب الفيزياوي، إذ يرتبط الجانب الفيزياوي بالصوت، شرط أن يؤدي وظيفة وهذا تأكيد لجانب الاستجابة لدى السامع في مجتمعه.
ويرى وتني Whitney أن اللغة أشبه ما تكون بمؤسسة اجتماعية، مثل أيّة مؤسسة أخرى، فليس الصوت وحده وسيلة اللغة، ولكنه أحد وسائلها، وبمقدور الإنسان اختيار الحركة واستخدام الصور البصرية موضع الصور السمعية([11])، وهنا إشارة إلى الطبيعة الصوتية أيضاً.
ويؤكد فندريس Vendryes أن اللغة نظام من العلامات، وهذا هو أعمّ تعريف لديه، ويوضّح هذه العلامات بأنها تكمن في الحواس الإنسانية، ويكون الصوت أولى معالجاته العلاماتية التي أشار إليها([12]).
نخلص من ذلك كله أن اللغة أولاً هي ذات طبيعة صوتية، وأنها تدرس بوصفها منطوق بها أصواتاً، وليس بوصفها حروفاً مكتوبة، وهذه قضية دقيقة، على أن قسماً منهم يرى أن العلامات أو الرموز هي إشارة إلى جانب ليس الجانب الصوتي، أي أن هناك لغة للبكم، كما هي الحال في لغة الإشارة، لكن ابن فارس (395هـ) فصل في هذا الأمر بقوله "لأن الأبكم قد يدل بإشارات وحركات له على أكثر مراده ثم لا يسمّى متكلماً([13]).
وهل بعد ذلك شك في دراسة لغويينا العرب للغة على أساس أنها أصوات؟ فهم الذين بشروا بهذا النوع من التفكير في الدراسة اللغوية، فالأصل أن تدرس اللغة المتكلمة المنطوق بها. لأننا نرى أن الاستعمال يتفق مع التقاليد في تأكيد اختلاف اللغة المكتوبة عن اللغة المتكلم بها، والواقع أنهما لا يختلطان أبداء ومن الخطأ أن نطن أن النص المكتوب يُعدّ تمثيلاً دقيقاً للكلام([14]).
فاللغة المكتوبة لا تصلح للدراسة فهي الطابع المميز للغات المشتركة، ونعلم من تراثنا اللغوي أن اللغة المشتركة في صراع دائم مع اللغة المتكلم بها؛ لأنها حينها تخضع لأي تأثير فردي، تميل دائماً إلى الابتعاد عن المثل الأعلى الذي تسلكه اللغة المشتركة، وكثيراً ما تكون اللغة المكتوبة معرّضة لضربات اللغة المتكلمة المنطوقة([15]).
ولا نقصد باللغة المكتوبة هنا اللغة الأدبية؟ لأن اللغة الأدبية تكون في طبقة معينة منعزلة، لها تقاليدها وعوائدها وامتيازاتها، وفي هذه الحال كانت للغتهم خصائص اللغة الخاصة كلها([16]).
أما أن العلماء العرب قد حدّوا اللغة بأنها أصوات، فهذا مما يفسر المنهج العربي في درسهم لجمع اللغة واستقرائها من طريق الرواية والمشافهة، وحديثهم الواسع والمستفيض عن السماع، ومنهج علم القراءات في التلقي والعرض([17]).
وبذا يكون العلماء العرب أول من قرر أن اللغة أصوات، وتابعهم من جاء بعدهم من بحث في أمر اللغة من المستشرقين والغربيين والمستغربين، وعلى وجه الدقة، فلقد كان للعلماء العرب أثر في الدرس اللغوي فيمن جاء بعدهم من علماء اللغة.
ويضيف ابن جنّي إلى تعريفه وظيفتين أخريين شغلت اللغويين ولاسيما المحدثين، ولكنه - ابن جني- قد أشار إليهما إشارة فقط من غير تفصيل في ذلك، هما التوصيل والتعبير، وإن كل نظام من أنظمة التعبير الإرادي يسمى لغة، ولهذا صح تعريف بعضهم([18]) للغة أنها نظام من العلامات، أولها الصوت، وثانيها التعبير، والتوصيل، وهذه العلامات تختلف بحسب الحاسة التي تدركها، ويطرح الأنطاكي السؤال: "هل للحيوان لغة كما عند الإنسان؟".
ويجيب الأنطاكي عن هذا السؤال بأنه إن كانت اللغة مجرد وسيلة للاتصال بالآخرين يكن جواب السؤال بالإيجاب؟ لأن العلماء الذين اهتموا بتفسير اللغات، قد كشفوا عن وسائل كثيرة يتوسل بها الحيوان للاتصال بأفراد جنسه لغرض تلبية حاجات غريزية منوعة، ولاسيما الحيوانات التي تعيش جماعات كالنحل، والنمل، والقردة، والوعول، وغيرها، وهي تعبيرات لا إرادية.
ويقسم د.وافي([19]) أنواع التعبير الإنساني على قسمين:
أحدهما: التعبير الطبيعي عن الانفعالات، ويشمل الأمور الفطريّة غير المقصودة جميعاً تلك التي تصحب مختلف الانفعالات السارة والأليمة، وقد أشار إليه الأنطاكي أنفاً.
الآخر: التعبير الوضعيّ الإراديّ، ويشمل الوسائل الإرادية جميعاً التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن المعاني التي يود وقوف غيره عليها، وأطلق عليه الأنطاكي بالتعبير الإرادي عن الفكر، فليس عند الحيوانات - هذا افتراض أولي- لغة من أي شكل من الأشكال، فالإنسان هو المعني بها.
وهنا نحتاج إلى أن نميز الإنسان من الحيوان باللغة، فقد قيل عن الحيوان الشيء الكثير في تعبيره عن انفعالاته بما يشبه اللغة، بالصياح والصراخ، كما عند الشمبانزي من القردة، أو النحل إذ تدل بالرقص على تلبية حاجاتها، لكن هذا الضرب من اللغة - إذا صح ذلك - يتميز تميّزاً قاطعاً من اللغة التي يستعملها الإنسان([20]).
وذكر السعران([21]) شيئاً من هذا، وردّه إلى دراسات هي في الأصل دراسات غير لغوية، فهذا من أثر الفلسفة، إذ يرى الفلسفة ولاسيما المناطقة أن دراسة اللغة فرع من دراسة الفلسفة، أو أنها - فرع من فروع علم النفس، أو فرع من فروع الانثربولوجيا الاجتماعية، وخلاصة هذه الدراسات كلها هو وصف اللغة على أنها الوسيلة للتعبير عن الأفكار، والعواطف، والرغبات، أو وسيلة لتوصيل الأفكار...الخ([22]).
يقدم هنري سويت Henry Sweet نوعاً من النظر القديم (الكلاسيكي) إلى اللغة بقوله: "أن اللغة هي التعبير عن الأفكار بوساطة الأصوات الكلامية المؤتلفة في كلمات([23])"، ويذهب ادوارد سابير إلى المذهب نفسه بقوله: "اللغة وسيلة خالصة، وغير غرزية إطلاقاً لتوصيل الأفكار، والانفعالات، والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية([24])" وهذه الرموز فيما ازعم هي الأصوات.
ينظر قسم من دارسي اللغة المحدثين إلى اللغة مثل هذه "النظرة الضيقة" على الرغم من دراستهم (الكلام الحي المنطوق)، وقد استعانوا على ذلك بعلم الاجتماع في دراسة اللغة.
إن (الأفكار)، و(الانفعالات)، و(العواطف) و(الغرائز)، و(الرغبات) كلها اصطلاحات نقلت إلى دراسة اللغة من دراسات أخرى هي غير لغوية، لذا جاز القول إن اللغة هي تعبير عن الفكر، على أن الفكر هو أحد وظائفها، والفرق واضح بين الغريزة والفكر (بين العلاقة الغريزية، والعلاقة الذهنية - الفكرية).
يحيا الحيوان بالغريزة، وهو كثير الطلب لها، ويتصرف للحصول عليها تصرفات غير طبيعية لذا أطلق عليها تصرفات (حيوانية) دلالة على عدم معقوليتها، ولا يخرج عن تلك الغريزة، وإلا كان الهلاك مصيره. أمّا العقل ففيه حريّة، وليس فيه كمال، وإنما يتكاسل باستمرار، قال برجسون([25]): إن العلاقة الغريزية علاقة ملازمة، في حين أن العلاقات الذهنية متحركة غير مستقرة، وبهذا تستطيع اللغة الإنسانية التعبير عن مواقف لا حصر لها من مواقف الحياة اليومية لا تلبية رغبات فقط، ذلك لأن العقل الإنساني أداة كلية شاملة تستطيع أن تخدم الإنسان في ضروب الملابسات والمصادفات جميعاً، أمّا لغة الحيوان فتقتصر على التعبير عن بعض المواقف، وإن كانت ضيقة، تلك التي قدرها الله تعالى لها.
نعم، إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر بلا لغة تعينه على ذلك أياً كانت تلك اللغة، وليس ثمة أدنى شك في أن التفكير في أغلب حالاته يقتضي استعمال اللغة([26]).
ومن الوهم أن ثقة تفكيراً بلا لغة، والصحيح إنما هي أفكار أمكن استحضارها في أثناء الصمت، والواقع أن الصمت الظاهري إنما هو كلمات وألفاظ، ولقد ذهب واطسن إلى التوحيد بين اللغة والفكر فهو يرى أن الفكر ليس شيئاً أكثر من الكلام الذي بقى وراء الصوت، إنه كلام الحنجرة لا الصوت، وعندما يفكر الإنسان فإنه يتكلم على الرغم من أن هذا الكلام لا يسمع"([27]).
نطرح السؤال الآتي: هل ثمة توصيل للأفكار أو تعبير عن الأفكار في لغة التحيات، ولغة التأدب، ولغة التدريب الرياضي والعسكري مثلاً؟
الجواب عن هذا السؤال أن ليس ثمّة توصيل للأفكار أو التعبير عنها في مثل ذلك، إذا ما تعود الإنسان ذلك، ولكنها تكون مرتبطة به - التوصيل والتعبير عنه - إذا كان الإنسان قاصراً عن ذلك.
وبذا تكون النظرة إلى اللغة من هذه الزاوية ضيقة، لأن اللغة هي وعاء الفكر كما يعبرون عنها، والتعبير عن الفكر ليس كل اللغة وإنما هو وظيفة من إحدى وظائفها، وكذلك يرى أولئك الذين درسوا اللغة مرتبطة بفروع المعرفة أن([28]):
1) الوظيفة الأساسية للغة هي أنها وسيله من وسائل "الاتصال" أو "التوصيل" أو "النقل" أو "التعبير" عن طريق الأصوات الكلامية.
2) وأن ما توصله اللغة، أو تنقله، أو تعبر عنه هو الأفكار، والمعاني، والانفعالات، والغرائز، والرغبات، أو.. الخ أو الفكر بوجه عام.
وقد شاركهم في هذا المذهب كثير من علماء اللغة ولاسيما من درس اللغة على أساس (منطقي) أو (فلسفي) أو "نفسي" أو "رياضي" أو "آلي".
وما دام الكلام على التعبير عن الأفكار والمعاني، فلقد أورد السيوطي([29]) (911هـ) تعريفين ربط بهما صاحباهما بين اللفظ والمعنى، احدهما لابن الحاجب (646 هـ) بقوله: (حد اللغة كل لفظ وضع لمعنى).
وتعريف الأسنوى (772 هـ): (اللغات عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني)، فاللغة عندها تلك الألفاظ، والألفاظ مؤلفه من أصوات، والألفاظ تقتضي معنى مفهماً للسامع، وهذا شرط في اللغة فإن لم تُبن فهي ليست لغة.
بقي أن تعريف ابن جني قد تطرق إلى مسألة (تعبير كل قوم عن أغراضهم)، فالتعبير والتوصل من الأغراض التي سبقت الإشارة إليهما، وإن مفهوم القوم الوارد في التعريف هو الدلالة على الجماعة، فهي – اللغة - لا تعيش بمعزل عنهم، وهذه إشارة إلى وظيفة أخرى شغلت علماء اللغة المحدثين. ووظيفة اللغة الاجتماعية عبر عنها وتني في مقالته السابقة بأنها مؤسسه اجتماعية، تعمل فيها أنظمة متعددة، وتكون بعد ذلك لغة مفهومة يتبادلها أبناء المجتمع الواحد، وهنا أيضاً إشارة إلى الطبعة الصوتية.
فاللغة - أية لغة - تبلور الخبرات البشرية، وتنقل تجارب الأمم في كلام يفهمه الغير، ويمكن أن يستفيدوا منه، وبها يدون التراث التفافي لذلك المجتمع - مجموعة من البشر تجمعهم بيئة واحده (القوم) لكي يحتفظ به جيل بعد جيل، وتشارك اللغة في تعديل سلوك الفرد كي يلائم المجتمع، وتزود الفرد العبارات المناسبة لكل مقام، فقد قال العرب قديماً "لكل مقام مقال"، حينما يتعلم الفرد تلك العبارات ويرددها في ظروفها المناسبة، يحاول بهذا أن يخضع سلوكه كفرد لما يقتضيه المجتمع([30]).
ومهما قيل عن اللغة عند السلوكيين من النفسيين، فأنها لا تستطيع أن تعش بمعزل عن المجتمع، وتقوم على أساس أنها نشاط للفرد يكتسبه من بيئة مجتمعة، الذي تربطه به روابط معينة، كالجنس، والدين، والعادات، والوطن، يروي عبد الرحمن أيوب([31]) قصة أحد ملوك المصريين في الأسرة الثانية، حين عزل طفلاً وليداً عن الاتصال بالناس، ليرى أيتكلم حين اكتمال نموه، إن لم يكن هناك مجتمع يكتسب منه لغته، ومما قيل عن أولئك الآدميين الذين وجدوا متروكين في الغابات، يعيشون مع حيواناتها، وقد أخذ هؤلاء ودربوا على الكلام فاستطاعوا اكتساب اللغة، وذلك ينهض دليلاً على أن اللغة تولد فطرية مع الإنسان، ولكن اكتسابها لا يكون إلا في المجتمع.
وأمّا نظره سويسر الاجتماعية في اللغة فأنها تتبني على أساس من نظرية دوركايم Durkheim رائد المدرسة الاجتماعية، إذ يعد ما يسميه (نشاط الجماعة) أو (النشاط الجماعي) مستقلاً تمام الاستقرار عن أي فرد من أفراد المجتمع الذي ينتمون إليه، فللفرد عنده وجود خاص، ويقرر أيضاً أن الظواهر الاجتماعية ذات وجود خاص، وتكون بذلك اللفظة ظاهرة من جملة تلك الظواهر الاجتماعية، ولخصائص سلوك الفرد وجود مستقل أيضاً، فاللغة إحدى هذه الظواهر الاجتماعية([32]).
ولا نستطيع في الواقع عزل الظواهر اللغوية عن مقاماتها الاجتماعية، ولا عن دلالاتها الاجتماعية، فإننا نلمس بوضوح حاجة ملحة إلى التواصل بين أفرادها، فاللغة من هذا الباب حقيقة اجتماعية ككل الحقائق الواقعية، هي ظاهرة كغيرها من الظواهر، لا لأنها تكون عاكسة للواقع الاجتماعي الذي هو منبعها، ولا هي نابهة عن الشعور الإنساني، ولكن لأنها مظهر جلي يمكن أن نرى فيه المجتمع واضحاً([33]).
ويرى محمود السعران([34]) أن دراسة الوظيفة الاجتماعية للغة يتطلب منهجاً خاصاً خلاصته: أولاً يعد هذا المنهج الكائن البشري مركزاً لدراسة اللغة، وثانياً تؤرخ للتطور اللغوي للشخص في الجماعة.
ويهتم هذا المنهج بالشخص والشخصية اهتماماً كبيراً، فالشخص يظل دائماً عاملاً مؤثراً ذا صلة وثيقة بالموضوع، ثم أن الاهتمام بالشخص والشخصية يفيد في جوانب لا كثيرة من الدرس اللغوي.
وخلاصة القضية أن حدّ اللغة قد ولد عربياً في بيئة عربية، وجاء دقيقاً معبراً عن حقيقتها وواقعها، في مسائل شغلت اللغويين المحدثين، ويتفقون على أنها أصوات، وتعبير، وتوصيل، وظاهرة اجتماعية، ونفسية... كل ذلك بما قال به اللغويون العرب القدماء، وأكده اللغويون من المحدثين.
حينما حدد اللغويون المحدثون مستويات التحليل اللغوي وأنها تدرس معاً تبدأ من المستوى الأول: الأصوات، والمستوى الثاني. البنية (بنية الكلمة)، ومدرسه المستوى الصرفي، والمستوى الثالث: التركيب (النحو)، والمستوى الرابع: الدلالة (المعنى).
اقترب المحدثون من حدّ ابن جني في الكلام على ذلك، وقد جاء معبراً عنها، وبه تطابقت وجهة النظر الحديثة مع وجهة النظر العربية القديمة، فعلماء العربية قد سبقوا أكثر الشعوب في تقعيد لغتهم، وبذا جاءت نظرياتهم متقدمة على كثير من النظريات.