كتاب " الفاظ الثواب في القرآن الكريم " ، تأليف د.
قراءة كتاب الفاظ الثواب في القرآن الكريم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أمَّا القرطبي فقد نقل قولين آخرين فضلاً عما ذكر:
الأول: أَنَّها كناية عن الخُلُق، ونسب هذا التوجيه إلى الحسن بن أبي الحسن يسار البصري (ت 110 هـ)، ومحمد بن كعب القرظي (ت 118 هـ)، وعلل ذلك بقوله : لأّنَّ خُلُقَ الإنسان مشتمل على أَحواله، اشتمال ثيابه على نفسه، قال الشاعر:
ويحيى لا يلام بسوء خلق ويحيى طاهر الأثواب حُرُّ ([240])
وهذا الرأي -فيما يبدو- قريب من رأي ابن عباس، أَو مِنْ رأيِ مَنْ تأوّلها بالنَّفْسِ وما يصدر عنها.
والثاني: إنها كناية عن الدين، ونسب هذا التوجيه إلى الإمام مالك (ت 179 هـ). وأصله أنه تأويل الرسول r:([241]).
وقد أدار بعض المحدثين اللفظ على المجاز أَيضا، فقال: (وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخلق والعمل. طهارة الذات التي تحتويها الثياب، وكل ما يلم بها أو يمسها)([242]).
وها هنا يمكن أن نَسْأَلَ أَوْ نُسْأَلَ: ألم تستعمل العرب طهارة الثياب على الحقيقة، وهي الأصل؟!، لأنّنّا نجد من المعنيين بدلالات الأَلْفاظ القرآنية من أدار لفظة ( الثياب) على الحقيقة كمحمد بن سيرين (ت 110 هـ)، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ)، والشافعي، فقد ذكروا أَنَّ تطهير الثياب: غسلها([243])، ونقل الفرّاء: أنّ تطهيرها تقصيرها([244]). وهم يستلهمون في هذا سنن العرب في كلامها لا محالة.
أَمَّا الثعالبي (ت 876 هـ) فقد ذهب إلى أَنَّ الآية تحمل (على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز)([245]). وهذا جائز، لأَنَّ الكناية لاتمنع من إرادة معنى اللفظ على الحقيقة([246]).
ويترجح للباحث، وهو يقرّ بأن القرآن في معاني أَلفاظه حمّالُ أَوجه، أَنْ يحمل لفظ الثياب على الحقيقة، لأَنَّ حمله على الكناية يمثل دلالة التزامية، يكون المدلول فيها غير محدود ولا محصور، وهي بهذا التصور قد تؤدي إلى ما لا يتناهى من المعاني([247]).
وأَغلبُ الظن: أَنَّ اللفظ لا يمتنع من إرادة الحقيقة فيه لأَسباب تتعلق بالحال والسياق، فقد ذُكِرَ في أسباب النزول أن الرسول r طلب أَنْ يتدثر بعد مشاهدته الثانية للوحي([248]). والسياق يؤيد هذه الحال، إذ افتتح الخطاب بقوله تعالى:}يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{ والمدثّر: الملتفّ بالدثار؛ وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار([249]). فإذا كان المنادى موصوفاً بهذا الوصف، هذه واحدة.
والثانية: أَنَّ الأمر بإنذار قومه والتصدّي لأعباء الدعوة يتطلب إعداداً روحياً، وبناء صلة قوية بالله، نبّه عليها القرآن في سورة المزّمل السابقة في النزول لسورة المدثّر([250]). فقد أُمِرَ فيها بقيام فترة من الليل للصلاة وقراءة القرآن. فلا غرابة في أَنْ يُشار بقوله تعالى:}وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ{ إلى تكبيرة الصلاة، والصلاة تتطلب طهارة الثياب، فضلاً عن طهارة البدن. قبل التعقيب بقضية المفاصلة بين عبادته وعبادة المشركين لأصنامهم بقوله:}وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ{، واختتم الأمر بوجوب الصبر، وقد قرنت الصلاة في غير موضع من القرآن الكريم بالصبر، قال تعالى:}وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ...{.
ويبدو على هذا من قرائن الحال والسياق، أنّ لفظ ( الثياب) حقيقة، أريد بها ثوب الصلاة والطهارة للنبي r، فلا حاجة للعدول عن ظاهر اللفظ إلى حمله على المجاز([251]). وقد وردت صيغة (الثياب) ثانية في سورة هود في قوله تعالى:}أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{([252]).
ووردت ثالثة في سورة الكهف في قوله تعالى:}وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ..{([253]).
ووردت رابعة في سورة نوح في قوله تعالى:}وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا{([254]).
والثياب في الآيتين من سورتي هود ونوح محمولة على الحقيقة. بيد أَنَّ الأولى مرتبطة بسياق، يصف حالة واقعة من المشركين، تشير إلى الاستخفاء من الله والرسول r([255]) ، ولا تخفى الظلال الموحية التي ألقتها جملتا: (يستغشون) و(استغشوا) على السياق عموماً، فهما تشيران إلى التغطي بالثياب لأجل ألاّ يسمع الإنسان، ولا يرى كناية([256]) عن الإعراض.