كتاب " الفاظ الثواب في القرآن الكريم " ، تأليف د.
قراءة كتاب الفاظ الثواب في القرآن الكريم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
فالآيات لمذكورة قد نزلت تعقيبا على أحداث وقعت في معركة أحد، لتصحيح تصورات وتثبيت معتقدات، فقد ذُكِرَ: أنَّ ناسا أشاعوا خبر مقتل الرسول r فتراجع الناس في المعركة، فقال بعضهم: لو كان نبيا ما قتل، وقال آخرون: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به([311]). وفي السياق تأكيد لجملة حقائق، منها:
- أنَّ الرسالة أكبر من الرسول، فموت الرسول لا يعني التخلي عنها.
- وأَنَّ الموت والحياة بيد الله، ولكل أجل كتاب، وفي هذا تحريض على الجهاد.
- ومآل العمل ثواب من الله.
وفي ضوء ما تقدم نعرض لآراء، قيلت في الكشف عن دلالة (ثواب الدنيا) التي وردت في الآية الخامسة والأربعين بعد المئة من سورة آل عمران، فقد ذهب الطبري (ت 310 هـ) إلى أنَّ ثواب الدنيا أعراضها([312])، وذهب الشريف الرضي إلى أنَّ ثواب الدنيا (منافعها ولذاتها، وإنمّا سميت ثوابا على طريق المجاز وتشبيها بالثواب، لما كانت في حكم المستحق عند أمور، جعلت أسبابا لذلك)([313]). أما القاضي عبدالجبار (ت 415 هـ) ، فقد ذهب الى أن ثواب الدنيا هو : اختيار الراحة بترك الجهاد، وليس في ذلك إلاّ نفع معجل([314]). وقد أورد الطوسي (ت 460هـ) ثلاثة أقوال:
أحدها: ما قسمه الله للإنسان.
وثانيها: النصيب من الغنيمة([315]).
وثالثها: جزاء النوافل في الدنيا مع مواقعة الكبائر، لأنَّها تحبط العمل([316])، وهذا بعيد.
والذي نرجحه هو النصيب من الغنيمة، لأنَّ واقع المسلمين في معركة أحد كان على قسمين:
- منهم: من أخلص النية في جهاده.
- ومنهم: من كانت الغنائم هدفا له. فالآية حضٌّ على الجهاد، وإخلاص النيّة لله.
أما الصيغة التي وردت في الآية الثامنة والأربعين بعد المئة من السورة المشار إليها آنفا، فقد اتفق المفسرون على أنَّ ( ثواب الدنيا) يدل على النصر والغنيمة والتمكين في الأرض وطيب الذكر، وهذا حاصل لمن ابتغى الآخرة([317]).
وأكثر النصوص تمثيلاً للدلالة الشرعية لصيغة الثواب قوله تعالى: }فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ{([318]).
فهو سبحانه بعد أنْ عدّ ما سترجع إليه الأعمال، فسّرها([319]) بقوله:}ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ{.
ونخلص من هذه النصوص إلى أنَّ صيغة (ثواب) استعملت في سياق الخير في القرآن الكريم للدلالة على ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أَعماله المتربطة بنيته([320]).
أمّا صيغة ( مثوبة) فقد وردت مرتين:
الأولى: في قوله تعالى:}وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{([321]).
والثانية: في قوله تعالى:}قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ{([322]).
وذهب الراغب (ت 502 هـ) والفيروز آبادى إلى أَنََّ المثوبة تستعمل في الخير، وتستعمل استعارة في الشر([323]) واستشهد لذلك بآية المائدة، أَمّا آية البقرة فدلالة المثوبة واضحة فيها على المعنى الشرعي للثواب المختص بالجزاء على الأعمال الصالحة . فهي عند الجمهور بمعنى الثواب . ([324]) وأشار الأخفش إلى أنه أراد بـ(المثوبة) معنى : (لأُثيبوا). ([325]) والحق : أَنَّ إيثار القرآن للجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو واضح، (لما فــي ذلك من الدلالة على إٍثبات المثوبة واستقرارها)([326]). ومما لا شك فيه أَنَّ المثوبة هنا مستعملة في الخير .
أَمّا استعمالها في آية المائدة فبدلالتها اللغوية، بمعنى : المرجع والمال، وليس لها علاقة بدلالة الثواب شرعاً، وجعل الثعالبي([327]) من ذلك قوله تعالى:}وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ...{([328]). وعلى هذا فصيغة (مثوبة) بدلالتها الشرعية لم تستعمل إلا في الخير، أَمّـــا استعمالها في الشر فبدلالتها اللغوية.
أما الصيغ الفعلية من هذه المادة، فلم يرد في القرآن الكريم منها إٍلاّ صيغتا: (أَثـاب) و (ثُــوِبَ) . وذكر الراغب والفيروز آبادى : أنّ الإثابة مستعملة في المحبوب والمكروه ([329]):
فمن الأول: قوله تعالى:}فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ{([330]). فأثاب هنا بمعنى: (وعد الكرامة)([331]) الذي وعد الله - سبحانه - به النصارى الذين سمعوا القرآن فبكوا لما عرفوا فيه من الحق فـآمنوا به، والإثابة تدخل في الدلالة الشرعية ،([332]) وقد فسر سياق النص ذلك بقوله:}وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ{.
وفي المعنى نفسه – نعني : وعد الكرامة جاء قوله تعالى: }لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (2) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا{([333]). وهذه الإثابة تدخل فيما أسماه القــرآن الكريم (ثواب الدنيا) وقيل فيه : إنه الفتح والغنيمة .
ومن الثاني: نعني : من الإثابة بالمكروه قوله تعالى:}إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{([334]). وقد ذهب الفرّاء - وتابعه آخرون -إلى أَنّ (الإثابة هاهنا بمعنى العقاب ، ولكنه كما قال الفرزدق ([335]):
أخافُ زِياداً أنْ يَكَونَ عَطاؤُهُ أداهِمَ سوُداً أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرا
وقد يقول الرجل الذي اجترم إليك : لئن أتيتني لأُثيبنّك ثوابك، معناه: لأعاقبنّك ، وربما أنكره من لا يعرف مذاهب العربية ، وقد قال الله تبارك وتعالى:}فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{([336]).
والبشارة : إنما تكون في الخير ، فقد قيل ذلك في الشر([337]). (وذهب الأخفش إلى أن الباء في:}فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ{ إنما على غم)([338]). وترتب على هذا أَنْ تكون الإِثابة بمعنى: الزيادة ([339]).
ونميل نحن إلى أنَّ الإثابة هنا لا يمكن أنْ تكونَ بمعنى : العقوبة دون قيد، بحيث تربط بسخط الله وعدم رضاه([340]). وإنمَّا هي بمعنى : الابتلاء والفتنة، فإذا كان فيها وجه عقوبة، فهي نعمة من وجه آخـر وإنْ كان الذي يؤدي إلى تلك النعمة مؤلماً . والسياق يشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: }... لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ..{([341]) وقد قال الزمخشري في تفسيره : أي: (لتتمرنوا على تجرّع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع، ولا على مصيب من المضار)([342]). كما أنّ الغمّ الذي تركوه في نفس الرسول r نتيجة فرارهم، سبب لهم غمّا، ملأ نفوسهم على ما كان منهم ، وهذا دليل على صحوتهم، حتى إنّ القرآن الكريم صرّح بأَنّ الأمر كان ابتلاء، قُرِن بعفو الله ، بدليل قوله سبحانه: }..ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ{([343]). وعلى هذا أَيضا : فإِنّه لا داعي لجعل الباء نائبة عن (على)، ولا نتأول الإِثابة بالزيادة .
أَماّ صيغة (ثـوّّب) فقد وردت مرة واحدة في قوله تعالى:}فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ{([344]) وقد قال أَبوعبيدة ( ت 210 هـ ) في تفسيره : أي : (هل جوزى)([345]) وقيل : إِنَّ منه : (ثوب فلان فلاناً على صنيعه ، وأثابه منه)([346])، بمعنى : جازاه ، قال أوس بن حجر([347]):
سَأَجزيكِ أَوْ يَجزيّكٍ عَنّى مُثَّوِبُ وَقَصْرُكٍ أَنْ يُثنى عليكٍ وَتُحْمَدى
وقد رأَينا أَنَّ صيغ الثواب استعملت في المجازاة على الأَعمال بالنعيم في العرف([348]). إٍلاّ في المكروه([349]). وفي هذا أَكثر من دلالة، لأَنَّ التثويبَ مرتبط بذهن العربي بالرجل الفزع المستصرخ الذي يلوّح بثوبه([350]) . وأَيُّ فَزَعِ واستصراخ ذاك الذي يتلبس الكفار في الجحيم يوم لا ناصر من بطش الله وحسابه . وفي استعمال هذا اللفظ مع الكفار في عذابهم مقابل صورة الثواب الذي ينعم به المؤمنون سخرية ما بعدها من سخرية ([351]).