كتاب " الفصل والوصل في القرآن الكريم " ، تأليف د.
قراءة كتاب الفصل والوصل في القرآن الكريم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقدمــــة
الحمد للّه كما أمر، وصلى اللّه وسلم على محمد سيد البشر، ومن والاه بإحسان إلى يوم الحشر، وبعد:-
مما لاشك فيه أن فروع اللغة العربية جلّها، إنما وجدت لخدمة القرآن العظيم، فلا غرو في ذلك، فإنه كتاب الإنسانية الأكبر، وأمة وحدة في البلاغة والفصاحة، والمنار الشامخ الخليق بأن تكون تراكيبه وأساليبه المثال الذي يهتدى به، وقد شرَّف اللّه اللغة العربية بأن جعلها لغة هذا الكتاب الإلهي المعجز، ولا يقصد باللغة- هنا- لغة التخاطب العادية، وإنما باللغة الأدبية التي أنزل بها نص القرآن الكريم، فهي لغة القرآن والحديث والشعر، فأصبح لزاماً على من يود أن يقف على وجوه إعجاز هذا السفر الرباني أن يتدارى لغته، واللغة عبارة عن مجموعة من العلاقات المعنوية واللفظية، تتجلى فيها المكونات اللغوية على نحو يومئ بالتماسك الفني، ويوحي بالسبك الأدائي المعبّر عن جمالية الفن الرفيع، والبلاغة الراقية، والأساليب الرصينة التي تتشكل في إطار النظم الذي يمنح الألفاظ سبكاً في السياق، على مستوى الأصوات والأبنية والتراكيب، وان التحول في الأداء من هذا الإطار قصد توسيع نطاق النظم لاستيعاب الدلالات المتعددة ينحو بالنظم منحنى أسلوبياً، وتتباين الأساليب البلاغية تبعاً لتباين فنون القول وما يمتاز به كل فن منها، وتسير هذه الأساليب في طوائف ثلاث لتشكل علوم البلاغة التي تشمل ثلاثة بحوث: المعاني: وموضوعه بيان ما ينبغي أن يكون عليه الأسلوب اللغوي ليطابق مقتضى الحال ويعبر عن المقصود أبلغ تعبير، والبيان: وموضوعه شرح المناهج التي يسلكها الأسلوب العربي في استخدام التشبيه والمجاز والكناية وغيرها ، والبديع: وموضوعه دراسة المحسنات اللفظية والمعنوية التي يحتملها الأسلوب العربي، فموضوعات البلاغة الثلاثة هذه أصبحت دراسة مهمة تقع في نطاق ما يسميه المحدثون الغربيون في اللغويات الحديثة باسم الأسلوبيات(stylistics) أي علم الأسلوب التعليمي ، ويقصد بالأسلوب البلاغي في التعبير القرآني ما اشتمل عليه النص القرآني من ظواهر التضام، في نحو: الحذف والزيادة، والإضمار والذكر، والتقديم والتأخير، والإطناب والإيجاز والمساواة، فضلاً عن موضوعنا(الفصل والوصل)، وظواهر المطابقة: كالالتفات وكاختلاف المتعاطفين وغير ذلك، وأول من تصدى لاستيعاب هذه البحوث الثلاثة في مؤلف مستقل هو أبو هلال العسكري(395هـ) في كتاب الصناعتين، ومن ثم جاء عبد القاهر(471هـ) فميّز بحوث المعاني من بحوث البيان وردّ مسائل كل منهما إلى قواعد مضبوطة، فكان بذلك المنشئ الحقيقي لهذين العلمين، إذ خرج بنتيجة لا تقبل النقض هي أن دقة النظم والبلاغة والبراعة والبيان مطوية في التركيب اللغوي، وكامنة في معاني النحو، ذلك لأن التراكيب النحوية لها دلالتان:دلالة وظيفية ودلالة إضافية، أو معنى أولي يدلّ عليه ظاهر اللفظ ومعنى ثان أو(معنى المعنى)، يتبع المعنى الأول، وهذا المعنى الثاني أو تلك الدلالة الإضافية الجمالية أو الذوقية هي الهدف والمقصد في البلاغة، فأصبح همّ البلاغيين البحث عنها، لاسيما بعد أن ظهر أن قوة اللغة في الأداء والبلاغة لا تأتيها من مفرداتها، وإنما من تركيب جملها، وطريقة هذا التركيب، وأن اللغة العربية لها خصوصيتها في تركيب الجمل يمكن أن يسمى بالتركيب الجواري(parataxe)، فتنتظم الجمل في نسق واحد، من غير أن تنبني إحداها عن الأخرى أو تفوقها في القيمة تبعاً لتوزيعها بين تركيب أصلي وتركيب تبعي، والفرق بين هذه التراكيب، والتباين بين الأساليب ليس فرقا ًفي الحركات، وما يطرأ على الكلمات من تغييرات، وإنما الفرق في معاني العبارات، وما يحدثه هذا الوضع وذلك التنظيم، فليس المقصود معرفة قواعد النحو وحدها، ولكن فيما تحدثه هذه القواعد من آثار وما يستتبعه من مدلولات، وما يتولد من النظم من معان.
والعلم الذي يحاول أن يقتبس من نور القرآن الكريم، ويغرف من بحره- في المرتبة الأولى- هو علم المعاني، الذي يهدف إلى معرفة وجه إعجاز القرآن المجيد من نظم الكلام النفسي، وحسن التأليف، وجودة السبك، وبراعة التركيب، وما حوى من سلاسة وعذوبة، إلى جانب الجزالة والسهولة، فالوقوف على بلاغته، وإدراك السرّ في فصاحته، وكيف أنه أصبح معجزة خالدة على مرّ الدهر، لا يقوى على معارضتها بشر.
صلتي بالقرآن الكريم تعود إلى مراحل التعليم الأولى، وزاد تعلقي به ورغبتي في الوقوف على جانب من منابع الإبداع الثرّ فيه، وبلغت هذه الرغبة ذروتها بعد إنهاء الدراسة الجامعية، فشعرت أنها أصبحت حاجة روحية لا مناص من تحقيقها، وقيّض اللّه سبحانه لي ظروفاً أعانني فيها عليها، ولقيت تشجيعاً من لدن أساتذتي الأفاضل، في مقابل ندرة اختصاص البلاغة في كلياتنا، هذه الأسباب مجتمعة دفعتني إلى اختيار موضوع في البلاغة العربية وسمته بـ(الفصل والوصل في القرآن الكريم- دراسة بلاغية)، وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب قد عرض له أغلب الكتب البلاغية القديمة والحديثة ضمن الموضوعات الأخرى، إلاّ أنني لا أعرف- على حدّ علمي- أفراد مؤلف مستقل له، كما أن الدراسات التي تناولته جاءت إما مبتورة لإغفال الفصل والوصل في المفردات، فضلاً عن بحث التراكيب، أو قليلة في شواهدها وشرح الأمثلة الموضحة، ويكثر خوضها في المسائل الفلسفية والنفسية التي تبعدها عن الفن البلاغي والذوق الأدبي، فحاولت إلصاق ما بتر، وتكثير ما تزر، وتنقية ما كثر، كما أنني(الناشئ الفقير إلى عفو اللّه) أدركت أن هذه الدراسات تخصّ الفصل والوصل في مجال الأدب.
أما دراستي لهذا الموضوع فتختلف عن سابقاتها من جهة أنها تخصّ تطبيق منهج الفصل والوصل وقواعده على آي القرآن الكريم، ودراسة الأداء البليغ لهذا الأسلوب في تعبيرات كتاب الله المنزل، بطريقة أظنها تربط بين التراث والحديث، ومن هذا الجانب تبرز جدّة البحث وأهميته- كما أظن-
وأغنت جوانب البحث مصادر لغوية وبلاغية ونحوية قديمة من أهمها: كتاب سيبويه(180هـ)ن ومعاني القرآن للفرّاء(207هـ)، والبيان والتبيين للجاحظ (255هـ)، ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني(471هـ) ومفتاح العلوم للسكاكي(626هـ)، والإيضاح في علوم البلاغة وشروحهما وتلخيصاتهما، والطراز للعلوي(739هـ) وغيرها، كما أفدت في تحليل الآيات أسلوبياً وبلاغياً من كتب التفاسير أهمها: الكشاف للزمخشري(538هـ) والتفسير الكبير لفخر الدين الرازي(606هـ) والمنار لرشيد رضا وغيرها، كما انتفعت بمراجع حديثة، أهمها: علوم البلاغة للمراغي، والمعاني في ضوء أساليب القرآن لعبد الفتاح لاشين، ومن بلاغة النظم العربي لعبد العزيز عرفة، ودلالات التراكيب لمحمد أبو موسى، وغير ذلك.
واقتضت خطة البحث تقسيمه إلى ثلاثة فصول مبدوءة بمقدمة ومختومة بنتائج البحث، خصصت الفصل الأول البلاغة الوصل، تحدثت فيه عن بلاغة الوصل بالعطف في المفردات، وفيها وفي التراكيب، وأحوال التراكيب، وأقسام الجمل، ومن ثم عرض مواضع الوصل الثلاثة ومحسنات الوصل.
وتناولت في الفصل الثاني: الجامع بين الجملتين وأنواعه ومواضع الفصل الخمسة وبالشرح والاستشهاد القرآني والأدبي، وذيلته بشرح وجيز جداً لعلاقة التراكيب الحالية واقترانها بالواو بموضوع الفصل والوصل، ولكن أحجمت عن التفصيل فيه لإشباعها شرحاً في الكتب إلى درجة الفتور.
أما بالفصل الثالث والأخير: فقد أفردته لتطبيق المنهج والقواعد التي استنبطتها من الفصلين الأولين على آي الذكر الحكيم، وانتقاء شواهد موضوعية تغني عن ذكر نظيراتها، وتحليلها تحليلاً بلاغياً وأسلوبياً، فضلاً عن تناول بعض لقضايا البلاغية، والمشكلات الكلامية والأسرار البيانية التي تنطوي عليها التعبيرات القرآنية في كلا الأسلوبين وختمت بها الفصل.
وقد لاقيت صعوبات في مراحل إعداد هذا البحث منها: قلّة المصادر والمراجع وصعوبة السفر للبحث عنها، وضعف تعاون بعض المسؤولين وغير ذلك.
وهكذا يّسر اللّه بمنته أن أقطر من بحر كلماته التي لا تنفذ وأحرر هذه الصفحات، عسى أن تكون فيها خدمة وإن كانت ضئيلة لكتاب اللّه العزيز ولغته وبلاغتها، وهي ثمرة جهود مضنية، أظن أنني لم أدخر منها وسعاً، فإن نفعت، فذاك أملي فيها، وإن كانت دون ذلك فما أزكيها، فما الكمال إلاّ للّه وحده، وما توفيقي ولا اعتصامي إلاّ باللّه، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى اللّه وسلم على محمد الرسول الأمين.
المؤلف