كتاب " الفصل والوصل في القرآن الكريم " ، تأليف د.
قراءة كتاب الفصل والوصل في القرآن الكريم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بلاغة الوصل بالعطف
اتضح لنا في التمهيد أن الوصل يعني ضم أجزاء الكلام، وتشبّث بعضها ببعض وعقد الصلة بين تلك الأجزاء فصلاً ووصلاً مع مراعاة الاتساق والانسجام والتعاقب والارتباط بينهما.لبيان معنى كل مفردة وجملة وموقعها، وعلاقاتها مما قبلها، وبما بعدها، لأن الكلام بغير هذا الترتيب للأفكار، والتنظيم للعبارات، يكون مفككاً، ويصيبه الإرباك والتشتت فيصعب فهمه، ويزول جماله، وتتلاشى قيمته، ويسهل إنكاره لعدم إفادته المعنى، لذلك قال ابن سنان(466هـ) في سرّ الفصاحة: " أن الألفاظ غير مقصودة في أنفسها، وإنما المقصود هو المعاني"([149]). فالألفاظ المتناثرة تبتعد عن النظام اللغوي، لأن اللغة ليست" في حقيقة أمرها إلا نظاماً من الكلمات التي ارتبط بعضها ببعض، ارتباطاً وثيقاً تحتمه قوانين معينة لكل لغة"([150])، ومن هذا يبرز دور الاتصال بين أجزاء الجمل، والجمل نفسها في إضفاء الروعة على التعبير وزيادة شرف المعنى.
وأطلق المعاينون على الربط بين الجمل وأجزائها مصطلح(الوصل) الذي حدّدناه بـ(العطف) عند تعريفنا له([151])، وهذا النوع من الوصل الذي يكون بحرف العطف واوا كانت أو غيرها، نسميه(الوصل الصريح)، لأن الربط بالحرف أحد أنواع الربط اللفظي([152])، والربط اللفظي وسائله" لغوية محسوسة"([153]) تشمل الأسماء والحروف ومنها حرف العطف، ولكن الوصل لا يقتصر على هذا الضرب فحسب، بل له ضرب آخر نسميه(الوصل بغير العطف) أو(الترّخص في الوصل)([154]) أو (القطع والاستئناف). وسيفصل الكلام عليه في موضوع (شبه كمال الاتصال)، والفصل الثالث بإذن الله.
ومع أن العطف باب نحوي والوصل فن بلاغي يمليه الطرق الأسلوبي إلا أنّهما يمثلان نقطة التقاء بين هذين العلمين، ففضلاً عما ورد آنفاً، فإن الباحث الغربي(بريستلي) قد أطلق على وسائط الربط في نحو: الضمائر والظروف والأسماء الموصولة والعطف، (حروف الوصل)، أو(أدوات الوصل)، وقال: " حروف الوصل هي آخر ما يكتسبه الصبيان في تلقّي اللغة، واستعداد الكهول للسيطرة عليها لا يكتمل إلا بعد تمرسهم باللغة، وهياكلها وأدواتها الأخرى"([155])، لذلك فالوصل والعطف لهما المعنى نفسه، والوظيفة اللغوية عينها، كلاهما وسيلة من وسائل الربط في العربية.
وبناء على ما تقدم يبدو أنه يحسن بنا بل لابدّ من أن نلّم ببعض جوانب معنى العطف لكي نضع البصمات على حقيقة أمر الوصل الذي" دعامته العظمى باب العطف"([156]). فالعطف([157]) " تابع يدلّ على معنى مقصود بالنسبة مع متبوعه، ويتوسط بينه وبين متبوعه أحد الحروف العاطفة، وهو إما أن يشرك بين الأول والثاني بالحكم والأعراب وإما أن يشرك بينهما بالإعراب فقط"([158])، وفي تخصيص ذلك قال ابن عقيل(769هـ) في شرحه على ألفية ابن مالك(672هـ): " حروف العطف على قسمين: أحدهما ما يشرّك بين المعطوف والمعطوف عليه مطلقاً، أي لفظاً وحكماً" ، وهي(الواو) و(ثّم) و(الفاء) و(حتى) و(أو)، ... و" الثاني: ما يشرك لفظاً فقط"([159])دون الحكم، وهي(بل) و(لا) و(لكن). أما عدد حروف العطف، فقد تباينت آراء النحاة فيها، فذهب قوم منهم إلاّ أنها عشرة حروف وهي" الواو- والفاء- وثمّ- و أو" وأم- وحتى- وأما- ولا- وبل"([160])، وذهب قوم إلى أنها تسعة بإسقاط(أما) منها، قال أبو عليّ النحوي(377هـ): " إن حروف العطف تسعة"([161]). وتابعه في ذلك ابن الأنباري(577هـ)، وقال ابن عصفور(669هـ): " إن(أما) ليست بعاطفة في الحقيقة، وإنما ذكرت في الجملة لمصاحبتها لها"([162])، وذهب قوم إلى" أنها ثمانية وأسقطوا منها(حتى)"([163])، ويرى ابن درستويه(347هـ) أن حروف العطف ثلاثة لا غير هي(الواو- الفاء- ثمّ)، قال: " لأنها تشرّك بين ما بعدها وما قبلها في معنى الحديث والإعراب، وليس كذلك البواقي لأنهن يخرجن ما بعدهن من قصة ما قبلهّن"([164])، ويبدو أن كلامه هذا لا يخلو من الصواب فيما يتعلق بموضوع الفصل والوصل لأن فيه نوع من التلميح إلى الجهة الجامعة التي تشترط" في كون العطف بالواو ونحوه مقبولاً في المفرد"([165])، كما يشترط بين المعطوف والمعطوف عليه في الجمل كذلك، " أي لابد من لمح الصلة بين المعطوف والمعطوف عليه"([166])مفرداً كانا أم جملة ولكن د.(بدوي طبانة) يرى أن شرط وجود الجهة الجامعة إنما هو" في العطف بالواو فقط، لأن التشريك في حكم الإعراب موجود في جميع حروف العطف، لكن ماعدا الواو منها ولها معانٍ أخر، تزيد على التشريك كالترتيب مع التعقيب في الفاء، والترتيب مع التراخي في ثمّ...الخ، فإن تحققت هذه المعاني وقصد التشريك حسن العطف، وإن لم توجد جهة جامعة"([167])، أما الواو فإنها"أصل حروف العطف...لأنها لا تدل على أكثر من الإشراك فقط"([168])، فصارت الواو- لهذا السبب- بمنزلة المفرد وباقي الحروف بمنزلة المركب والمفرد أصل المركب"([169])، لذلك قال السيوطي(911هـ) مؤكداً ذلك: " أن الواو أصل حروف العطف"([170]). وهي كما قال المرادي(748هـ): " الواو أم باب حروف العطف، لكثرة مجالها فيه، وهي مشتركة في الإعراب والحكم"([171])، وهي جمّاع معاني العطف، وتربط الجمل كما تربط المفردات"([172]) وهي" الجامعة العاطفة "([173])، التي تعطف مفرداً على مفرد وجملة على جملة"، وهذه تختلف عن واو الاستئناف التي تكون في حالة عدم إمكان" عطف الجملة التي بعدا على الجملة التي قبلها، كان تكون الجملة الثانية إنشائية والأولى خبرية وبالعكس"([174]).
" وإفادة الواو للاشتراك إنما تظهر فيها له حكم إعرابي، كالمفردات والجمل التي لها محل.أما إفادتها للاشتراك فيما لا محل له من الإعراب ففيها خفاء ودقة، لعدم ظهور المشترك فيه، وتوقف الاشتراك على الجهة الجامعة"([175])، وهذا هو السبب في أن"بلاغة الوصل لا تتحقق إلا بالواو العاطفة فقط دون بقية حروف العطف"([176]) الأخرى التي إذا ما عطف بأحدها ظهرت الفائدة ولا يقع الإشكال في استعمالها، لأنه إذا وجد معنى منها كان ذلك المعنى كافياً في صحة العطف بالحرف الدال عليه وإن لم توجد جهة جامعة بخلاف الواو، فلا يكون العطف فيها مقبولاً دون الجهة الجامعة، كما ذكرنا، ولكن ينبغي أن نعلم أن هناك فرقاً نحوياً دقيقاً بين(واو الوصل) و(واو العطف)، وهذا الفرق يكمن في أن الواو تدل على معنيين: الجمع المطلق والعطف، ودلالتها على الجمع أعم من دلالتها على العطف والذي يدل على ذلك إنا لا نجدها تعرى من معنى الجمع وقد تعرى من معنى العطف"([177])، فالذي يدلّ على معنى مطلق الجمع هو(واو الوصل) والآخر هو(واو العطف)([178]).
ونظراً لضيق المقام وللاحتفاظ ببلاغة الموضوع أتحاشى الخوض في معاني العطف وحروفها بالتفصيل لأن ذلك من اختصاص النحو فيستطيع القارئ الرجوع إلى كتب النحو([179]) للاستزادة من المعلومات إذا لزمه الأمر، وكل ما يراد قوله هو تركيزنا على الوصل بالواو دون غيرها من حروف العطف ولا يبحث في غيرها إلاّ بقدر ما توجِبُه ضرورات البحث، ولكن يفضل التنبيه إلى أن" بلاغة الوصل تتحقق في إرادة الجمع بين الجمل أو إضافة صفة أو أمر إلى المسند إليه، ولا ريب في أن الوصل إذا وقع موقعه يجعل الأسلوب مترابطاً يتصل بعضه ببعض، وهذا ما يجعل الموضوع وحدة مترابطة وليست مفككة الأوصال"([180])، فإن النص إذا كان مفصولاً بعضه عن بعض ومتمزقاً تراكيبه تشعث وذهب رونقه وتلاشت جماليته وسبكه.