أنت هنا

قراءة كتاب بلا بوش

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بلا بوش

بلا بوش

كتاب " بلا بوش " ، تأليف عبد الرحمن الهويش ، والذي صدر عن مؤسسة شمس للنشر

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 7

كانت كلماته تنساب بثقة راسخة، وهدوء...

أحسستُ حينها أنني وجدتُ منقذي، فعادت السكينة إلى روحي المستوحشة.. كان الجميع يحترمه، ويسمع قوله، لم يكن يُحسب على أحد منهم، لا أحد يعرف توجهه، كان مع الجميع، ولجلسته تلك، وكلامه معي، أثر كبير في تهدئتهم، وكأن أمرًا صدر إليهم بتركي وشأني، حتى أنني ظننتُ أن "الحاج خالص" قد أخبرهم أنني صرتُ ضمن مجموعته... وعندما راجعت حاله خلال الأيام القليلة التي مرَّت؛ وجدت أنه لا مجموعة له، كان الجميع بتلونهم وتشكلهم مجموعته.. فارتحتُ قليلاً واطمأننت لذلك، وزالت مخاوفي، وعزمتُ على أن أقوِّي علاقتي به.

ما أن وضعت رأسي على وسادتي حتى غفوت.. كان شعوري بالطمأنينة مخدرًا.

بعد ليالٍ من الوجل والخوف، رأيتُ ( أفكار)، كانت تركض، تهرب من شيء يلاحقها؛ كلب أو ذئب؛ كان يريد أن ينهش لحمها، وهي تركض جاهدة، وتنادي، تنادي عليَّ لأنقذها: ( أبي... أبي...)... صحوتُ جافلاً، مرتجفًا، عطشًا... بحثت عن شربة ماء أرتوي منها، قنينة ماء كانت قريبة، وجدتها وشربتُ قليلاً، ثم تحركتُ صوب الجدار وأسندتُ ظهري إليه....

ترى ما حلَّ بكِ يا ابنتي، لقد انشغلتُ بحالي عنكِ طيلة الأيام الماضية، وهل لي إلا أن يكون حالي هو ما يهمني، لقد علَّمتني أيام الجيش في ساعات الضيق أن أهتم بحالي ريثما أعود إلى بيتي، وأن لا أشغل تفكيري بمشاكل وقضايا أخرى لا أستطيع أن أغيِّر منها شيئًا، أو أن أقدِّم فيها ما يستوجب، فتتأثر نفسي وتتهاوى عزيمتي، فيسوء حالي ولا أستطيع تحمل ما يلم بي، وما يتوجب علي في تلك الحال، فيؤثر ذلك على امكانية تحمل ما أنا فيه، وقد يتعثر حالي ويسوء أكثر مما أنا فيه، فيطول غيابي... لذا فما علَيَّ في هذا السجن إلا أن اهتم لحالي، وأن أبذل جهدي ولا أشغله بهموم ومشاكل بعيدة لن تزيدني إلا همًّا وضعفًا، كي أستطيع العودة إليك على الأقل بعقلي السليم.

عدتُ لأنام، كانت دموعي تنهمر بغزارة، حاولتُ السيطرة عليها، لكنني فشلت.. أحسستُ برغبة عاتية للبكاء، كظمتها لمرة أو مرتين، لكنني في النهاية استسلمتُ لها فغمرني الأنين، حاولتُ أن أكمده كي لا أشعر من حولي، وكان فشلي واضحًا، سمعتُ صوتًا يناديني:

- شلش...شلش...

انتبهتُ إليه، كان صوت "الحاج خالص"، أجبته محاولاً أن يكون صوتي طبيعيًا فلا أشعره ببكائي:

- نعم...

قال :

هل تشكو من شيء...

- كلا...كلا لا شيء.

عاد وسألني :

- هل تبكي ؟

وما إن سمعت سؤاله، أحسستُ بكل بكاء العالم ينحدر إليَّ، لم أستطع أن أخفي لوعتي وبكائي، شعرتُ وكأنني طفلٌ ضربه والده وتركه لظنونه في أنه يبغضه، وفي لحظة حنقه الشديد وظنونه المتنامية، يحتضنه والده ويقبِّله، فيشعر بخطأ ظنونه، وبالحنان الكبير الذي افتقده خلال اللحظات التي مضت.

بكيتُ... أسرع "الحاج خالص" وجاء بقربي؛ مع أن المكان مزدحم جدًا، جلس بجواري، حاول أن يواسيني، قال :

- لا تبكي... ستفرج...

قلتُ له باكيًا :

- ابنتي، ابنتي الوحيدة.. تركتها لوحدها... أمها ماتت وليس لها إخوة.

قال :

- كلنا مثلك...كلنا تركنا أبناءنا وبناتنا.

بكيتُ، وازداد بكائي بعد أن سمعتُ نشيج بكاءٍ قربي.. جاء الحاج خالص ليواسيني فجعلته يبكي، كان منظر بكائه إيذانًا لي بأن أنوح، صحى معظم المعتقلين على بكائنا، ورويدًا رويدًا كنتُ أسمع نشيج البكاء من كل أرجاء الزنزانة.

مرَّت أيام... كان الوقت يمرُّ ببطء، والأحوال تسوء، صباحًا يبدأ السجانون بجرنا واحدًا تلو الآخر للخضوع لتحقيق جديد، ولتأليبنا ضد بعضنا البعض، ثم نعود لننقسم إلى مجموعاتنا التي أوجدوها ورضينا بها وتمسكنا بها.. وفي الليل يختلف الحال من يومٍ إلى آخر، ومن سجَّانٍ إلى آخر، فمنهم من يحب أن يسهر على عذاباتنا وهمومنا فيجعل الليل وقتًا لإعادة التحقيق؛ وأحيانًا للتعذيب.. كان أحدهم يسعد كثيرًا حين يرى الرعب يتملكنا حين نفرّ قافزين لندخل زنزانتنا هربًا من أنياب كلب متوحش يفلته خلفنا.. ومنهم من يتسلى بردة فعلنا على ما تعرضه علينا مجندة منهم من مفاتن جسدها، أو ما يقومون به بينهم من حركات تثير غرائزنا.

حتى جاءت تلك الليلة... كانت ليلة زنزانتنا، أخرجونا إلى الباحة التي تجتمع فيها أبواب الزنزانات.. قيدونا، وغطوا عيوننا، فلم نعد نراهم أو نرى بعضنا... تلك الليلة حفرت أحداثها في ذاكرتي حفرًا، جروني بقوة، مزقوا ملابسي، كانت آلة حادة تشقها بعجالة، مزقوها كلها، حاولت أن أستبقي شيئًا يستر عورتي، توسلت بهم، كانوا ضاحكين مستهزئين، ولهاث كلابهم يُسمع على مقربة كأنها تنتظر دورها لتهجم معهم.. رفعوا غطاء عيوني، نظرتُ صوب زملائي خجلاً، نظراتنا تتشابه، وحالهم مثل حالي، المنظر مريع، كنتُ أظنُّ أنهم عرّوني لوحدي، كان الجميع عُراة، ومقيدين، والكلاب متوثبة تستحثهم للهجوم... أوقفونا جنب بعضنا، وبدأوا يلتقطون صورًا لهم بيننا، كانت نساءهم المجندات من بين حضورهم، وكن مستأنسات وجذلات بمنظرنا... صورونا بأوضاع مختلفة: واقفين وجلوسًا، متباعدين وركامًا، كانوا يرموننا واحدًا فوق الآخر، ثم يجلسون فوقنا ويصورون بعضهم...

أعادوا أغطية عيوننا ليبدأوا فصلاً آخر، جروني إلى كرسي من حديد ثقيل وربطوني إليه، ألصقوا وجهي على خشبة الكرسي، وشدو عنقي إليه، ربطوا يدي إلى قوائمه، بينما كانت ركبتاي إلى الأرض، إيادٍ تتحسس جسدي، وضحكاتهم تتعالى.. أحسست بشيءٍ يلجُّ بين فردتيّ مؤخرتي.. هرجهم يزداد، وتعليقاتهم، وتصفيق أياديهم.. في البداية ظننتها عصا من عصيهم المكهربة، أو يد أحدهم.. لكن الأمر وضح بعد لحظات، كانوا يجرون عرضًا أمام كاميراتهم لاغتصابنا.. حاولتُ أن أتزحزح، وأن أغيِّر من وضعي الذي كنتُ عليه.. خارت قواي، وتآمرت أعضاء جسدي الأخرى معهم.. كانوا قد اغتصبوني، واغتصبوا الاخرين واحدًا تلو آخر، وصوروها ليتذكروا، وكنا لا نحتاج إلى صور لتذكِّرنا بحالنا، وما آل إليه، بعد أن سلمنا بواقعنا الجديد وارتضينا بهم ليتحكموا بحال وطننا بين أيديهم كيفما شاءوا.

أيام ونحن مرضى، لا نأكل ولا نشرب، لا نتكلم مع بعضنا، أنين البكاء تسمعه بين حين وآخر، في الليل وفي النهار، لا نعلم على من نضع اللوم، ومن يتحمل المسؤولية: هم؟.. أم نحن؟.. أم العالم الذي اختار أن يتفرج على مصيبتنا..

بعد يومين سادت جلبة كبيرة في أنحاء السجن، زارتنا مجموعات منهم، وتفحصتْ قسمًا منا، واستنطقتنا كلنا، فهمنا أن ما جرى ليلتها قد سُرِّب منهم، ونشرته وسائل الإعلام، وأن رأيًا شعبيًا رفض هذه الممارسات وأدانها، وطالب بمحاسبة الفاعلين... انتشر الخبر وظهرت الصور في كل أرجاء العالم، فكنا مثل التي تحرش بها جارها فأحضروها وسط السوق ليأخذوا لها حقها.

لم تمر أيام حتى أُغلقت قضايانا، وأُسقطت عنا تُهم الإرهاب، ثم أطلق سراحنا بعد التوقيع على إقرارات بعدم تعرضنا إلى أي فعل ينافي حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي، وتعهدات بعدم رفع دعاوى قضائية عند أية جهة، وعدم التحدث بالموضوع.

الصفحات