أنت هنا

قراءة كتاب مناسك الحج والعمرة وآداب الزيارة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مناسك الحج والعمرة وآداب الزيارة

مناسك الحج والعمرة وآداب الزيارة

كتاب " مناسك الحج والعمرة وآداب الزيارة " ، تأليف د. محمد توفيق رمضان البوطي ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر .

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

مُقَدِّمة بقلم: الدكتورمحمد سعيد رمضان البوطي

لن أحدثك أيها القارئ عن هذا الكتاب لا قادحاً ولا مادحاً، بل كن أنت القادح له أو المادح.

غير أني لن أحدثك عن أهمية الحج أيضاً، فما منّا أحد إلا وقد عرف مدى أهمية الحج في حياة المسلمين الخاصة والعامة.

ولكني أريد أن نلتقي معاً على سؤال نطرحه، هو: هل يحقق حج المسلمين اليوم إلى بيت الله الحرام جزءاً من الحكمة التي شرع الله الحج من أجلها؟

لو كانت العبرة من العبادة رسمها ومظهرها، لكان في هذا اللقاء الحاشد كل عام عند بيت الله تعالى ما يحل مشكلات المسلمين كلها، ويحقق لهم الخير أجمع.

ولكن مشكلات المسلمين لاتزال قائمة، وإنها لتزداد تعقداً كل يوم. وبلاؤهم ببعضهم لايزال مستحكماً، وإنه ليستشري مع كل حين. وأعداؤهم لايزالون يتربصون بهم الدوائر، وإنهم ليزدادون مع الأيام كثرة ولا ينقصون.

إذن ينبغي أن نتجاوز المظاهر والرسوم إلى مضموناتها التي هي مناط الحكمة ومعين الفائدة للمسلمين كلهم أفراداً وجماعات. وإذا تأملنا في هذه المضمونات وجدنا أكثر المسلمين في غفلة عنها، قد شغلوا عنها بالمظاهر والأشكال، ومن ثَمَّ فإنك قلما تجد شيئاً من حِكَم الحج وآثاره ينعكس بالإصلاح على أي مشكلة من مشكلات المسلمين، وما أكثرها اليوم.

إن من أُولى الفوائد التي شرع الله لها الحج، أن يتلاقى المسلمون من شتات، ويتعارفوا بعد جهالة، ثم يحققوا في ظلال بيت الله معنى قوله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 21/92]، فإذا عادوا إلى بيوتهم جعلوا من أرض الله الواسعة موئلاً لوحدتهم، ودفنوا في باطنها كل حاجز أو سبب للفرقة والشقاق.

أجل، فإن الله تعالى قد جعل - وهو الحكيم الخبير- من شريعة الحج إلى بيته الحرام قمة ثلاثة اجتماعات لمسلمين تندرج في الأهمية والاتساع. أما أولها فاجتماع على مستوى أهل الحي الواحد من البلد، يتكرر في اليوم خمس مرات، وقد شرع الله له صلاة الجماعة، أما ثانيها فاجتماع على مستوى أهل البلدة الواحدة، يتوالى مع كل أسبوع، وقد شرع له صلاة الجمعة، وأما ثالثها فاجتماع على مستوى العالم الإسلامي أجمع، ويتوالى في كل عام، وقد شرع له الحج إلى بيت الله الحرام.

وحسبك من أهمية الوحدة في حياة المسلمين أن ترى كيف أقام الله تعالى ثلاث عبادات من أهم العبادات الإسلامية،

سبيلاً لوحدتهم، ومرقاة إلى تعاطفهم وتضامنهم.

ولكن، أفحقق المسلمون من وراء الحج إلى بيت الله الحرام هذا الهدف الأقدس؟

إذا تلاقى المسلمون في هذه الرحاب أيام الحج، رأيت فيهم بحراً لا يمكن أن تنفصل قطراته، وسمعت لهم هديراً لا يمكن - على اختلاف اللغات - أن تتخالف نبراته، وهزتك منهم عواطف تذيب مما بينهم كل حاجز، وتجمع كل بعيد!.. حتى إذا انتهت المناسك وانفض الحجيج، رأيت أكثر هؤلاء المسلمين قد عادوا شيعاً وأحزاباً، يعرضون عن الكليات الجامعة من قواعد الإسلام وهديه، ويعكفون على الجزئيات الخلافية من أحكامه وآدابه، يقطعون ذلك المعتصم العريض من طريقهم، ويثيرون سبلاً ضيقة متخالفة أمام أهوائهم. أو رأيتهم يعرضون عن الاعتصام بالحبل الإلهي الجامع، ليتنازعوا على مغانم الدنيا المفرِّقة الفانية، ينيمون نبضات التعلق بالله في قلوبهم؛ ليوقظوا لواعج الحقد والحسد والتهاريج في نفوسهم!.. وتبحث عن البحر المائج حول بيت الله، فإذا هو قد تبخر رذاذاً، وتبحث عن الهدير الجامع والعواطف الحرّى، وإذا هو كله قد استحال إلى صيحات خلاف ودخان بغي وشقاق!..

وإن من أهم حكم الحج إلى بيت الله الحرام أن تنسكب حقائق العبودية لله في نفوس المسلمين من أقرب سبيل فتفيض منها على كياناتهم انصباغاً وسلوكاً. يدور المسلم حول بيت أقيم من حجارة الأرض وترابها، لا يبحث في طوافه حوله عن شيء سوى مرضاة الله تعالى، وهو القائل: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} [الحج: 22/29] يناديه ملء قلبه ولسانه: لبيك اللهم حقاً وصدقاً، لبيك اللهم تعبداً ورقاً. قد تجرد عن كل إشارة تميزه، وعن كل ثوب يجمله؛ ليعلن لله تعالى بكل كيانه أنه ليس إلا عبداً فقيراً لله عز وجل، لا يعلو عن سائر عباد الله في شيء، ولا يرفعه عليهم قدر.

حتى إذا ما انفض الحجيج وطُوي الموسم، رأيت عبيد الله قد استحالوا - إلا من رحم ربك - إلى عبيد للدنيا... عبيد للمناصب... عبيد للمغانم... عبيد للذة ساعة... عبيد لخدعة كافر... عبيد لتهديد فاجر...! وتعثو هذه الآلهة الصغيرة في قلوب المسلمين وحياتهم مسخاً وتمزيقاً، وإن أصداء ندائهم لاتزال تتماوج حول بيت الله: لبيك اللهم حقاً وصدقاً، لبيك تعبداً ورِقّاً!!..

وإن من أهم آثار الحج إلى بيت الله الحرام أن تستيقظ مشاعر المسلم لكل مَعْلَمة من معالم الفتح الإسلامي، على يد سيد المجاهدين محمد عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه البررة الكرام.

هذه مكة، وادٍ غير ذي زرع، حقق الله فيه دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام. منه انطلقت إلى العالم حضارة قضت على حضارة الفرس واليونان والرومان، وانبسطت في الأرض تجمع إلى القوة العدل، وإلى المادة الروح.

وتلك هي البطحاء، تحت شمسها كان يشوى جسد بلال؛ ليكفر بالله وبمحمد رسول الله، فما كان ليفتر عن أنشودته التي يرددها معه السهل والجبل: أحد، أحد، لقد ارتفع لواء هذا النشيد فوق ذرا الأرض، وانحسر الطغيان أمام مدّ الإسلام الصادق والتضحية الخالصة لوجه الله.

وذلك هو عُرَنَة، حيث وقف رسول الله r، عند منصرفه من عرفات، فألقى في جموع المسلمين - وقد ملؤوا من حوله كل ما تمتد إليه العين - خطابه المودع الجامع، يناجي فيه تاريخ المسلمين وأجيالهم، بعد أن أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل إقامة شرع الله ثلاثة وعشرين عاماً لا يكلُّ ولا يمل. إنه اليوم يودع، ويلقي الأمانة في عنق الأجيال: أمانة كتاب الله... أمانة الدفاع عن دين الله...

إن هذا الوادي ليشهد أنه r أدى أمانة هذا الدين إلى المسلمين: شريعة بيضاء نقية ظاهرها كباطنها، لا يحيد عنها إلا فاجر.

حتى إذا انفضّ الحجيج، وخلت عرفة وما حولها من جموع الداعين والباكين والمبتهلين، رأيت الكثير من أولئك الذين شهدوا تلك المعالم، وورثوا أمانة الحق عملاً به، ودعوة إليه، معرضين عن كتاب الله وشرعه، يلهثون وراء نظم الشيطان، يحلُّون ما حرم الله، ويغيرون أحكام الله، قد انحط كل منهم في شؤون دنياه ومصالحها، يرى غربة الإسلام بين أهله، وكيد الأعداء لأحكامه، وللمخلصين من دعاته، فلا تهزه الحمية لاتباع رسول الله r في شيء من الجهد الذي بذل، أو الإيذاء الذي تحمل ولا يحس أن في عنقه أمانة وأن في ذمته بيعة، ولم يعد يذكر أن عرفة شهدت على هذه الأمانة وأن العقبة أخضعته لأحكام تلك البيعة. وماتت ألفاظ التلبية لله عز وجل في الشفاه... وعادت مجرد صيحات في تجاويف الأفواه!!.

ألا يا عباد الله! أين هذا الواقع المرير من الحج المبرور الذي وصفه رسول الله r؟...

الصفحات