كتاب " الحيرة والأحلام " ، تأليف د. عبد الحسن حسن خلف ، والذي صدر عن دا
أنت هنا
قراءة كتاب الحيرة والأحلام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
صمت وسكون، ولحظة ترقب، أعقبها برق صاعق يخترق المعجزات، جلبـة، أزيـز، عاجـل، اتصال، الخطوط مفتوحة، و/أو حيناً، مخلوق غير مرئي ينفذ من الآفاق، يحطم حواجز الزمان والمكان بسلطان، اقترب مني وأحسّ به من دون أن أراه أو يمسني، كاد أن يهمس في أُذُني دون أن يلامسها، صوت رجل ينقل إليّ عبارة موجزة لا ينقص منها ولا يزيد، مرة واحدة لا يكررها: «زهرة ماتت». تم الاستلام، انقطع الاتصال، رفعت الأقلام وجفت الصحف، أستيقظتُ.
خرجت بالذاكرة والمدارك، أسير في شوارع المدينة العتيقة خائفاً أترقب؛ كان عمري آنذاك ثمانية عشر عاماً، أحدق بالوجوه أحسّ بالناس خائفين يحدقون بالوجوه، يتأملون الحيطان، ينظرون إلى الأبواب، يحذرون، يترقبون، اللافتات والملصقات تشدد الخناق على الجدران، ملصقات ملونة طويلة، عريضة، يظهر فيها شخص محاصر نحو الجدار، يبدو فقيراً خائفاً مغلوباً على أمره يقف أمامه شخص أفندي ذو طلعة بهية، ملابسه أنيقة كأنه رقيب أو مخبر سري، يهمس في أذنه، ويهدده، يحذره، يوجه إليه إنذاراً، يرفع بوجهه سبابته ويشير بها نحو الحائط، والحائط مكتوب عليه بخط عريض: «لا تتكلم، للحيطان آذان». غداً سترفع المشانق، وتقطع الرؤوس في ساحة التحرير. «جواسيس»، ومنذ ذلك الحين كتب علينا الصمت في الحياة، الصمت في النهار كالموت في الأحلام، كلاهما يهمس في الآذان، ماتت أختي «زهرة» قبل ثلاثة أعوام، لا خوفاً من الملصقات أو فزعاً من رعب المشانق ،إنما بفعل تيار كهربائي تركت وراءها ثلاثة أطفال، حزنت عليها، وبكيت، لكن أجواء الجامعة وانهماكي بالتحصيل والجدال طوت على التجربة صفحات النسيان. ماذا يريد الهامس في الآذان؟ هل أصدرالسلطان في الأرض أوامره إلى المخبر السري يحذرني من مغبة التمادي في الجدال؟.
رأيتها جالسة عند الضحى تحت دفء الشمس، تقلب كعادتها كفيها، وتقلم أظفارها؛ سمعتها تردد في الغناء صوت هديل خافت يشبه البكاء: «تمنيت روحي طير ويطير»( (1)).
قلت لها:
سمعتك منذ صباي تحسدين الطير في السماء، تخاطبين الراكبين في الزوارق عندما كنا في القرية، وعندما جئنا إلى بغداد قبل خمس سنوات، أخذت تتوجعين من الفراق وتشتكين المسافات ومتاعب المواصلات، قالت:
ولدي ياسين، تزوجت أباك قبل أربعين سنة، ومنذ ذلك الزمان انقطعت أواصر الاتصال بيني وبين أهلي في قرى ميسان إلّا المسافرين والأحلام. يحتفلون بزفاف أو ولادة طفل أو حصاد، فلا أفرح معهم، أخذ الدهر أبي وأمي فما سمعت بهما إلا بعد أشهر وأحياناً سنة، وللرجال سطوة على النساء كسطوة السلطان على الناس.
شعرت بالأسى وتأنيب الضمير عندما سمعت كلمات الأحلام والاتصال وسطوة السلطان، استدرجت صورة الضعيف يحاصره القوي إلى الجدار:
لا تتكلم للحيطان آذان، وهو صامت لا يتحرك؛ الكلمات والصور تطارد الذاكرة سبعة أيام تنغص عليَّ المطالعة في الكتاب ولذة الجدال في الجامعة. واسيتها، وأعطيتها أفيون «الصبر مفتاح الفرج»، ثم طويت الكتاب في الحقيبة والكلمات مرفقة بالصور في جوانحي، وقررت مراجعتها في الفراش.
خرجت بالذاكرة والمدارك، أبحث في قرى ميسان عن امرأة حمراء في الحقيقة رأيتها منذ صباي، أعرفها، وجهها مدور منور كفرط الرمان، أنفها أذلف قصير وفي عينيها تدوير. أتذكر، في حدقتيها تلوين أصفر من رب العالمين، ناعمة هادئة رقيقة، ذات قوام معتدل لكنه نحيف، يفيض قلبها بالحنان، تشهق، وتتحسر وأحياناً تبكي إذا مرضنا أو أصبنا بأذى. حلقت بأجنحة مشمعة في سماء القرية، تذكرت بيتها جنوب القرية على شاطىء النهر على جهة اليسار، اهتديت اليه في الحال، وضعت أذني على القصب، أنصت، سمعتها تتشاجر مع زوجها حمدان، كان ابن عم لها، بشرته سمراء داكنة، ذو قامة طويلة، على وجهه نقرس، كان كريماً طيب الشمائل أريحياً سمعته يقول لها:
ـ اخفضي من صوتك لا تفضحيني أمام الجيران، ماذا تريدين مني، تتشاجرين معي طوال الليل.