كتاب " الحيرة والأحلام " ، تأليف د. عبد الحسن حسن خلف ، والذي صدر عن دا
أنت هنا
قراءة كتاب الحيرة والأحلام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
طأطأوا روؤسهم قليلاً ينظرون من واجهة الزجاج المقابل للسائق. رأيت من مسافة سوقاً وناساً كثيرين، رجالاً ونساءً وصبية يعبرون الشارع، يتقاطرون على السوق أو ينصرفون منه، التفتوا إليَّ يضحكون، يحركون أجسامهم وينفضون ملابسهم، كأنهم يتهيأون للنزول. رأيت بعضهم يهمس في أذن صاحبه، التفت يميناً ويساراً وجدت الشوارع والساحات توحي إليّ بأنه سوق «مريدي». انقبض صدري، وشعرت بالغربة والحزن وأحسست بالأسى، أغمضت عيني، وفي لحظة خاطفة شاهدت تجربة في سوق مريدي تشبه الكابوس: «فوت حمودي، فوت، لا توكف، لا تلتفت».((19))
وجدت «صويحب» يسير خلفي، يمسك بكتفي الأيمن، ويدفعني باتجاه السوق ، الممر ضيق، الرجال والنساء يتدافعون، زحمة وصياح، تدافع ومزاح، شجار وعراك، وأحياناً إطلاق نار، رأيت على يميني ساحة صغيرة يطلقون عليها «عكرة البيع»، نساء يشكلن سطراً يفترشن الأرض، يضعن السمك في أوانٍ بيضاء، مدورة عريضة وكبيرة «يسمونها صواني»، جمع «صينية» وبعضهن يضعنه، في سطول من البلاستك عميقة وعريضة والسمك الرائج في السوق لا يعدو الحمري والشلج وأبو زويني، وهو على رداءته وقدمه ورائحته التي تزكم الأنوف لا يقدر البسطاء على شرائه إلا بشق الأنفس، أما «الشبوط ولبُني والكطان» فلا يذوقه إلا الأغنياء من أصحاب العمارات والحرف والحرامية، رأيت الناس ينظرون إليه بعيون غرثى، تشبع منه عيونهم، أما طعمه فعليهم حرام، أسراب من الذباب تحلق وتحوم على «ثروب» السمك المطروحة على الأرض العامرة بالطين، اصطدم بوجهي سرب من الذباب، أحسست به ذباباً من نوع راقٍ، لونه أسود حادّ، أجنحته طويلة وعريضة، وبطونه ممتلئة تشبه كروش الأغنياء ومن حقه كمواطن صالح الاغتناء. يأكل ما لذً وطاب من بطون السمك، وإذا عطش يقفز إلى الضفة المقابلة من الساحة يشرب ما لذً له وطاب من اللبن والقيمر والحليب، المكشوف في «صوانٍ» بيضاء.تأملت على عجل وجوه النساء وبائعات اللبن والحليب الجالسات إلى جانب الصواني، فوجدتهن يشبهن زوجتي «صينية»؛ لكن صويحباً «أخا» صينية «لا يسمح لي بالتأمل والتذكر»، يصيح بي من وراء بما يشبه الزجر: فوت حمودي فوت لا «توكف لا تلتفت». لم يبق أمامنا إلا خطوات لنذوق طعم الهواء النقي، رفع صويحب عن كتفي كفه الثقلية والطويلة، لكنه ما زال يملك حق الوصاية عليً في التجوال، اتجه بي يميناً، مررنا بأصحاب الملابس و قد وضعوا بحسن تدبير يضفون على السوق واجهة مشرقة، ويضعون الملابس على أسرة، تمتلك حيوية يعلقونها على سكة ستائر تحيط بالأسَّره من الجهتين وتشكل ديكوراً يشبه الصالون، ولكل منهم اختصاص؛ منهم من يشتري ويبيع للأفندية وآخر لأبناء العروبة، وثالث للصبيان، وعلى أطرافهم أوعلى مسافة منهم ملابس الأطفال وما أجملها لو كانت مستوردة، لكنها من جلود القرية والمدينة والحارة والزقاق، كلها قديمة، وكثير منها مستهلك وعتيق، ولم يبق للعراقيين شيء جديد، يضفي البهجة على أجسادهم وبيوتهم، وإذا أنصت إلى إعلام السلطة تصفهم في كل وقت ومكان: يرفلون بالعزة والديباج والكرامة والعنفوان، والنصر المؤزر في القتال، يعيدون كتابة التاريخ ويبدأون مراحل التخلف من جديد، والمأخوذ على أمره ساكت لا يجيب، وإذا سألته أجاب: حشر مع الناس عيد.
أنا واحد منهم اسمي «أحمد» في التجنيد، لكن صويحباً وأخوانه وأبناء عمه يسمونني «حمودي»، ولا أعرف بالتحديد الكاره منهم والحبيب.
«إركض حمودي إركض، صيهود يتعارك»، ضربني على كتفي، وانطلق نحو محلات بيع وشراء وتصليح الأجهزة الكهربائية، أسرعت وراءه، رأيت من مسافة رجلاً وامرأة قبالة صيهود يجادله بما يشبه العراك، اقتربت منهم، سمعت الرجل يقول:
«عمي اشتريت منك ثلاجة جديدة بالباكيت بثلاثة ألاف دينار، كلت لي: ماطورها إمريكي، اطيك بيها ضمان سنة تشتغل ما تعطل إشتغلت عندي إسبوع واحد وعطلت، يصير الجديد يعطل باسبوع، والضمان سنة وين صارت»((20)). هز صيهود يده بوجه الرجل: «شسويلها، يجوز شغلتها بدون جهاز حماية».
ـ «من خوفي عليها، اشتريت الجهاز قبل التشغيل، موجود إمش وياي وشوفه».
وضع صيهود كفه على خده، ومال برأسه ثم أطلقها:
ـ «أنا كافلها، أنا صانعها، الكهرباء ما مستقرة، مرة تجي قوية ومرة تجي ضعيفة، واحتركت».
هز الرجل رأسه:
ـ «لا والله الكهرباء في هذه الأيام رحمة من الله، بس كول: ماطورها مستعمل ومجفت، وبعتها جديده عليّ».
هز صيهود يده بقوة وهو يقهقه بتكلف:
ـ «أستغفر الله، أنا رجل مسلم أصوم وأصلي، وابن عشاير، الناس تعرفني، شلون يصير أغشك»؟((21))
ـ لا عمي إذا إنت صادق، تحلف يمين عن الحلال والحرام((22)).
تقدم صيهود نحوه أخذ يهز يده بوجهه كأنه يتهيأ لضربه:
ـ «أحلف شنهي بايك خشول أمك، لو ساطي على هوايشك إمشي إمشي، ترى أصيح عمامي عليك، يترسون بطنك رصاص((23)).
اقشعر جلد الرجل، حاولت المرأة أن تحجز بينهما، تدخل صويحب على أنه غريب يريد إصلاح ذات البين بينهما، تسورت يده أكتاف الرجل كأنه يحنو عليه ويتعاطف معه ثم سحبه جانباً:
ـ «أنت رجل عاقل تعرف الأصول، والعاقل بهذا الوكت يتكفى الشر، هذا رجل شراني عشيرته جبيره عوفه خلّه يولي توكل على الله، أنا مثلك قبل أسبوعين أشتريت ثلاجة جديدة، إسبوع وعطلت وحك هذا الله»((24)).
رفع رأسه يشير بيده إلى السماء، ورفع الرجل هو الآخر رأسه يشير بيده إلى السماء قائلاً:
ـ «ماكو غير الله، بس هو يشوف ويسمع»((25)) وانصرف.
رجع صويحب إلينا يبتسم على أنه كسب الصفقة، أشار بيده إلى أخيه أن ادخل إلى مكتبك، فدخل، تسورت يده كتفي كما فعل مع الرجل، ولكن بهيئة من يريد نفعي ويجلب رزقاً في وقت الحاجة وشدة الأزمة وقال:
ـ «صيهود شغلته رحمة من الله، وهو يحتاج عامل سبع((26)) يساعده في المحل، وأنت نسيبنا عزيز علينا من حقك علينا نشغلك، وأنت عطال بطال لا شغل ولا عمل، شنهي رائيك تشتغل وياه، تبيع بالمحل، وإذا رجعو سلعة عاطلة مثل هاي تنكر وتعتذر وتهدد وإحنه وراك، وإذا طلبوك لليمين تحلف، وبعد يومين تتصدق وتستغفر الله». صعقت على رأسي، أصبت برجفة، وصحت به:
ـ «لا، خوي، لا، أعفوني هاي الشغلة ما أكدر الها»((27)) .
ـ «أشبيك حمودي، إسم الله، شبيك»؟((28)) .