أنت هنا

قراءة كتاب العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

كتاب " العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

لكن، ودونما حاجة إلى أن نتجشم هذا العناء بكامله، فمن الضروري إقصاء هذا الاحتمال، أيضاً، لأننا لا نلفي أبا الوليد يقول، في مرحلة أولى وفي بعض مصنفاته التي تنتمي إلى هذه المرحلة، بأن العالم متناهٍ، ثم يتراجع عن ذلك، في مرحلة أخرى ثانية وفي بعض الكتب التي وضعها في هذه المرحلة الثانية، ليقول بأن العالم لامتناه.

ينتصب، أمام بوار الاحتمالين السالفين، الأول والثاني، احتمال ثالث بدأت ملامحه ترتسم من خلال تقاسيم الاحتمال الثاني السابق الذكر والذي يستفاد منه أن أبا الوليد ظل، على امتداد نظره في مسألة التناهي أو اللاتناهي في العالم، يتردد بين هذا المعنى وذاك، إما بأن يقول، في نص وزمان معينين، بأن العالم ككل متناه، أحياناً، بينما يميل، أحياناً أخرى وفي النص والزمان نفسيهما، إلى القول بأنه لامتناه، وإما بأن يتردد، في المسألة الواحدة وفي الآن نفسه، ومن ثم، في الكتاب الواحد عينه، بين هذا وذاك، أي بين التناهي واللاتناهي، وإما بأن يقول، في هذه المسألة على امتداد مراحل فكره وتواليفه، بالتناهي، لكنه يجنح، في مسألة أخرى غيرها وفي كل الأزمنة والتواليف، إلى الاعتقاد باللاتناهي.

لا تسعفنا مواقف ابن رشد، بتاتا، بالموافقة على الوجهين الأول والثاني من الأوجه الثلاثة التي يتضمنها هذا الاحتمال الأخير. وليس ذلك لما فيهما من مفارقات معلومة وبينة بإطلاق، ولا لتعاطف غير مبرر مع فيلسوف اشتهر بالمجاهدة ضد الآراء المتناقضة لما فيها من شناعات وميول سفسطائية، بل لأن الرجل لا يذهب فعلاً، ولا في مرحلة من مراحل تشكل فكره ولا، أيضاً، في واحد من كتبه، إلى مناقضة ما يذهب إليه في مرحلة أخرى أو في كتاب آخر من تلك المراحل والكتب.

ليس من غير الهين، على الملاحظ اليقظ، أن ينتبه إلى معالم احتمال رابع وقد شرعت في التشكل بين ثنايا هذا الاحتمال الثالث، كما يعبر عنها الوجه الثالث الوارد فيه، وهو الوجه الذي يفيد، فضلاً عما تقدم وكما ألمعنا إلى ذلك آنفاً، نوعاً من التردد بين اختياري التناهي واللاتناهي. لكنه، بحسب ما هو واضح من أمره، ليس التردد الذي يتعاقب فيه الاختياران أو يتقاطعان بصورة متزامنة، سواء في المسألة الواحدة بعينها، أو سواء في إشكال العالم ككل، وإنما بالمعنى الذي تختص فيه مسائل متباينة، من مسائل العالم، بأحد الاختيارين دون الآخر، أي بحسب جهة النظر إلى العالم، فعندما ننظر إليه من خلال مسألة، أو مسائل، بعينها، كالعظم والعدد والاسطقسات والعلل، نراه متناهياً، لكن حينما نتفرسه عبر مسألة، أو مسائل أخرى، غير الأول، كالحركة، في بعض أحوالها، والزمان والوجود، نراه غير متناه.

ذلك ما نلفيه لدى أبي الوليد على امتداد مراحل فكره، وفي مختلف كتبه وأنماط تواليفه ومصنفاته، أي سواء في المراحل المبكرة من تشكل آرائه في العلم والفلسفة، أو سواء في المراحل الناضجة من هذا التشكل، مع ما بينهما من مراحل وسيطة وانتقالية، وذلك كما تمثلها مختصراته وتلاخيصه وشروحه، فضلاً عن تواليفه الموضوعة.

لا يخلو التردد، بهذا المعنى، من فصل مقال. إنه تردد، أو مراوحة، بين الفصل والتردد. أما الفصل ففي القول، أبداً وفي كل التواليف، بأن العالم، من جهة، متناه، وبأنه، من جهة أخرى، غير متناه. وأما التردد ففي هذه المراوحة ذاتها لا في غير هذا المعنى من المراوحة، مما يجعلنا، ونحن نتابع مواقف ابن رشد من تناهي العالم أو لاتناهيه، أمام نوع من فصل المقال بين ما في العالم من اتصال أو انفصال، أي من تناه أو لاتناه.

من هنا، يكتسب كل واحد من طرفي النقيض منزلته ضمن المسألة، فبقدر ما يكون العالم غير متناه يكون كذلك متناهياً، والعكس صحيح، أي أنه بقدر ما يكون متناهياً يكون، أيضاً، غير متناه.

على أن حل الإشكال بهذه الكيفية لا يعصم الناظر في الموضوع من الوقوع في إشكال آخر لا يقل أهمية ولا خطورة عن السابق، ومفاده، كما ألمعنا إلى ذلك فيما تقدم، أنه إذا لم يكن هنالك كبير إشكال في نعت لفظ التناهي بأنه من الألفاظ التي تغتني بشحنة مفاهيمية ثرة واضحة المعالم، فما مدى جواز انتماء لفظ اللاتناهي إلى الدائرة المفاهيمية التي ترقى به من مجرد اللفظية البسيطة العادية والمتداولة إلى مستوى الاختصاص الذي تعبر عنه لغة محددة ومجال علمي بعينه؟

مصدر هذا الإشكال، بحسب ما هو متعارف عليه في تاريخ الفلسفة، أن لفظ اللاتناهي إنما يحيل، منذ البدايات الأولى لتاريخ الفلسفة مع الإغريق، على عدم الكمال واللاتعين والنقص، أو الحرمان من الصورة(9)، ومن ثم، على العدم وعلى اللاوجود أو، على الأقل، على ما هو في طور التكوين، والذي لم يكن ممكناً لأرسطو، ولا لمن تلاه من النظار فيما بعد، أن يتعامل معه على أنه موضوع للنظر، بصورة موضوعية، لولا الدفعة التي قام بها أفلاطون في هذا الاتجاه، بالرغم من أن اللامتناهي يبدو خارج العقل، ويتجلى، من ثم، من حيث هو المجال الخاص للتيولوجيا، كما يقول بذلك بعض الدارسين المعاصرين(10).

إذا كانت الفلسفة اليونانية قد استحضرت مفهوم اللاتناهي وجعلته موضوعاً للتأمل إلّا أن أرسطو، نفسه، وهو يقر باللامتناهي، لم يعترف منه إلا باللامتناهي بالقوة دون اللامتناهي بالفعل، وهو الأمر الذي سوف يتم تجاوزه بدءًا من القرن السادس عشر مع بعض المناطقة والفلاسفة(11).

على أن بعض التطورات التي عرفها الفكر المسيحي، قبل هؤلاء المفكرين، هي التي سوف تتيح، فيما يبدو، الإرهاصات الأولى للتفكير في اللامتناهي من حيث هو مفهوم إيجابي، بالمعنى الكامل للفظ، غير سالب، إن لم نقل إنها سوف تعبد الطريق في هذا الاتجاه، إذ بالرغم مما يوجد من تنافر، أو نشاز، في القول بأن العالم غير متناه وهو، مع ذلك، من خلق الله، حيث يبدو، من المتناقض جداً، الجمع بين فكرة عدم تناهي العالم وفكرة الخلق، أي كونه مخلوقاً من قبل الله الذي هو وحده لامتناه(12)، إلّا أن بعض المفكرين المسيحيين هم الذين سوف يميلون بالمسيحية إلى تقبل القول بأن العالم، أيضاً، لامتناه، كما نلفي ذلك لدى Nicolas de Cues الذي، بحسب ما يرى «الكسندر كويري»، وإن لم يحدث ثورة علمية في الموضوع ولا قال، بالضبط، بأن العالم لامتناهٍ، إلّا أنه، مع ذلك، يذهب إلى أن العالم لامحدود، أي أنه لامتعين (indéfini)(13)، الأمر الذي قد يفسر العلة التي من جرائها أصابت محرقة محاكم التفتيش، بعد ذلك بحوالي قرنين من الزمان، «جيوردانو برونو» الذي يقول بأن العالم غير متناه لأنه إنما كان يريد بذلك لانهائية العوالم وليس لامحدودية العالم مثلما هو الشأن، فيما يبدو، لدى Nicolas de Cues ما دام هنالك اختلاف بين مفهومي اللامتناهي واللامحدود، إذ إن اللامتناهي أو:

«اللامنتهي هو الفضاء الذي يمكن أن نمسك فيه حجماً أو طولاً بالقدر الذي نرغب»(14).

الصفحات